الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الطبري المسمى بـ «جامع البيان في تأويل آي القرآن» ***
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {وَلَا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ وَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَعْنِي بِقَوْلِهِ: {وَلَا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ}، وَلَا تَجْلِسُوا بِكُلِّ طَرِيقٍ وَهُوَ “ الصِّرَاطُ “ تُوعِدُونَ الْمُؤْمِنِينَ بِالْقَتْلِ. وَكَانُوا، فِيمَا ذُكِرَ، يَقْعُدُونَ عَلَى طَرِيقِ مَنْ قَصَدَ شُعَيْبًا وَأَرَادَهُ لِيُؤْمِنَ بِهِ، فَيَتَوَعَّدُونَهُ وَيُخَوِّفُونَهُ، وَيَقُولُونَ: إِنَّهُ كَذَّابٌ!
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ قَالَ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ، حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ: {بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ}، قَالَ: كَانُوا يُوعِدُونَ مَنْ أَتَى شُعَيْبًا وَغَشِيَهُ فَأَرَادَ الْإِسْلَامَ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ قَالَ، حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ، حَدَّثَنِي عَمِّي قَالَ، حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلُهُ: {وَلَا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ}، وَ“ الصِّرَاطُ “، الطَّرِيقُ، يُخَوِّفُونَ النَّاسَ أَنْ يَأْتُوا شُعَيْبًا. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ قَالَ، حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ: {وَلَا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ}، قَالَ: كَانُوا يَجْلِسُونَ فِي الطَّرِيقِ، فَيُخْبِرُونَ مَنْ أَتَى عَلَيْهِمْ: أَنْ شُعَيْبًا عَلَيْهِ السَّلَامُ كَذَّابٌ، فَلَا يَفْتِنُكُمْ عَنْ دِينِكُمْ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ، حَدَّثَنَا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {بِكُلِّ صِرَاطٍ}، قَالَ: طَرِيقٍ (تُوعِدُونَ)، بِكُلِّ سَبِيلِ حَقٍّ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ قَالَ، حَدَّثَنَا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، نَحْوَهُ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ قَالَ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُفَضَّلٍ قَالَ، حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: {وَلَا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ}، كَانُوا يَقْعُدُونَ عَلَى كُلِّ طَرِيقٍ يُوعِدُونَ الْمُؤْمِنِينَ. حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ، حَدَّثَنَا حُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ قَيْسٍ، عَنِ السُّدِّيِّ: {وَلَا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ}، قَالَ: الْعَشَّارُونَ. حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ سَهْلٍ قَالَ، حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو جَعْفَرٍ الرَّازِيُّ، عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ، عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَوْ غَيْرِهِ- شَكَّ أَبُو جَعْفَرٍ الرَّازِيُّ- قَالَ: «أَتَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِهِ عَلَى خَشَبَةٍ عَلَى الطَّرِيقِ، لَا يَمُرُّ بِهَا ثَوْبٌ إِلَّا شَقَّتْهُ، وَلَا شَيْءٌ إِلَّا خَرَقَتْهُ، قَالَ: مَا هَذَا يَا جِبْرِيلُ؟، قَالَ: هَذَا مِثْلُ أَقْوَامٍ مِنْ أُمَّتِكَ يَقْعُدُونَ عَلَى الطَّرِيقِ فَيَقْطَعُونَهُ! ثُمَّ تَلَا {وَلَا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ}». وَهَذَا الْخَبَرُ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَعْنَاهُ كَانَ عِنْدَ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ شُعَيْبًا إِنَّمَا نَهَى قَوْمَهُ بِقَوْلِهِ: {وَلَا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ}، عَنْ قَطْعِ الطَّرِيقِ، وَأَنَّهُمْ كَانُوا قُطَّاعُ الطَّرِيقِ. وَقِيلَ: {وَلَا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ}، وَلَوْ قِيلَ فِي غَيْرِ الْقُرْآنِ: “ لَا تَقْعُدُوا فِي كُلِّ صِرَاطٍ “، كَانَ جَائِزًا فَصِيحًا فِي الْكَلَامِ، وَإِنَّمَا جَازَ ذَلِكَ لِأَنَّ الطَّرِيقَ لَيْسَ بِالْمَكَانِ الْمَعْلُومِ، فَجَازَ ذَلِكَ كَمَا جَازَ أَنْ يُقَالَ: “ قَعَدَ لَهُ بِمَكَانِ كَذَا، وَعَلَى مَكَانِ كَذَا، وَفِي مَكَانِ كَذَا “. وَقَالَ: (تُوعِدُونَ)، وَلَمْ يَقُلْ: “ تَعِدُونَ “، لِأَنَّ الْعَرَبَ كَذَلِكَ تَفْعَلُ فِيمَا أَبْهَمَتْ وَلَمْ تُفْصِحْ بِهِ مِنَ الْوَعِيدِ. تَقُولُ: “ أَوْعَدْتُهُ “ بِالْأَلِفِ، “ وَتَقَدَّمَ مِنِّي إِلَيْهِ وَعِيدٌ “، فَإِذَا بَيَّنَتْ عَمَّا أَوْعَدَتْ وَأَفْصَحَتْ بِهِ، قَالَتْ: “ وَعَدْتُهُ خَيْرًا “، وَ“ وَعَدْتُهُ شَرًّا “، بِغَيْرِ أَلِفٍ، كَمَا قَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: {النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا}، [سُورَةُ الْحَجِّ: 72]. وَأَمَّا قَوْلُهُ: {وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ}، فَإِنَّهُ يَقُولُ: وَتَرُدُّونَ عَنْ طَرِيقِ اللَّهِ، وَهُوَ الرَّدُّ عَنِ الْإِيمَانِ بِاَللَّهِ وَالْعَمَلِ بِطَاعَتِهِ {مَنْ آمَنَ بِهِ}، يَقُولُ: تَرُدُّونَ عَنْ طَرِيقِ اللَّهِ مَنْ صَدَّقَ بِاَللَّهِ وَوَحَّدَهُ {وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا}، يَقُولُ: وَتَلْتَمِسُونَ لِمَنْ سَلَكَ سَبِيلَ اللَّهِ وَآمَنَ بِهِ وَعَمِلَ بِطَاعَتِهِ (عِوَجًا)، عَنِ الْقَصْدِ وَالْحَقِّ، إِلَى الزَّيْغِ وَالضَّلَالِ، كَمَا:- حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ، حَدَّثَنَا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: {وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ}، قَالَ: أَهَّلَهَا {وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا}، تَلْتَمِسُونَ لَهَا الزَّيْغَ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ قَالَ، حَدَّثَنَا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، بِنَحْوِهِ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى قَالَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ: {وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا}، قَالَ: تَبْغُونَ السَّبِيلَ عَنِ الْحَقِّ عِوَجًا. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ قَالَ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ قَالَ، حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: {وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ}، عَنِ الْإِسْلَامِ تَبْغُونَ السَّبِيلَ (عِوَجًا)، هَلَاكًا. وَقَوْلُهُ: {وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ}، يُذَكِّرُهُمْ شُعَيْبٌ نِعْمَةَ اللَّهِ عِنْدَهُمْ بِأَنْ كَثَّرَ جَمَاعَتَهُمْ بَعْدَ أَنْ كَانُوا قَلِيلًا عَدَدَهُمْ، وَأَنْ رَفَعَهُمْ مِنَ الذِّلَّةِ وَالْخَسَاسَةِ، يَقُولُ لَهُمْ: فَاشْكُرُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْعَمَ عَلَيْكُمْ بِذَلِكَ، وَأَخْلِصُوا لَهُ الْعِبَادَةَ، وَاتَّقُوْا عُقُوبَتَهُ بِالطَّاعَةِ، وَاحْذَرُوا نِقْمَتَهُ بِتَرْكِ الْمَعْصِيَةِ، {وَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةَ الْمُفْسِدِينَ}، يَقُولُ: وَانْظُرُوا مَا نـَزَلَ بِمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ مِنَ الْأُمَمِ حِينَ عَتَوْا عَلَى رَبِّهِمْ وَعَصَوَا رُسُلَهُ، مِنَ الْمَثُلَاتِ وَالنَّقَمَاتِ، وَكَيْفَ وَجَدُوا عُقْبَى عِصْيَانِهِمْ إِيَّاهُ؟ أَلَمْ يُهْلِكْ بَعْضَهُمْ غَرَقًا بِالطُّوفَانِ، وَبَعْضَهُمْ رَجْمًا بِالْحِجَارَةِ، وَبَعْضَهُمْ بِالصَّيْحَةِ؟ وَ “ الْإِفْسَادُ “، فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، مَعْنَاهُ: مَعْصِيَةُ اللَّهِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {وَإِنْ كَانَ طَائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطَائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَعْنِي بِقَوْلِهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ: {وَإِنْ كَانَ طَائِفَةٌ مِنْكُمْ}، وَإِنْ كَانَتْ جَمَاعَةٌ مِنْكُمْ وَفِرْقَةٌ (آمَنُوا)، يَقُولُ: صَدَّقُوا بِاَلَّذِي أَرْسَلْتُ بِهِ مِنْ إِخْلَاصِ الْعِبَادَةِ لِلَّهِ، وَتَرْكِ مَعَاصِيهِ، وَظُلْمِ النَّاسِ، وَبَخْسِهِمْ فِي الْمَكَايِيلِ وَالْمَوَازِينِ، فَاتَّبَعُونِي عَلَى ذَلِكَ {وَطَائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا}، يَقُولُ: وَجَمَاعَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَدِّقُوا بِذَلِكَ، وَلَمْ يَتَّبِعُونِي عَلَيْهِ {فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا}، يَقُولُ: فَاحْتَبِسُوا عَلَى قَضَاءِ اللَّهِ الْفَاصِلِ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ {وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ}، يَقُولُ: وَاَللَّهُ خَيْرُ مَنْ يَفْصِلُ وَأَعْدَلُ مَنْ يَقْضِي، لِأَنَّهُ لَا يَقَعُ فِي حُكْمِهِ مَيْلٌ إِلَى أَحَدٍ، وَلَا مُحَابَاةٌ لِأَحَدٍ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: {قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا}، يَعْنِي بِالْمَلَأِ الْجَمَاعَةَ مِنَ الرِّجَالِ وَيَعْنِي بِاَلَّذِينِ اسْتَكْبَرُوا، الَّذِينَ تَكَبَّرُوا عَنِ الْإِيمَانِ بِاَللَّهِ، وَالِانْتِهَاءِ إِلَى أَمْرِهِ، وَاتِّبَاعِ رَسُولِهِ شُعَيْبٍ، لَمَّا حَذَّرَهُمْ شُعَيْبٌ بَأْسَ اللَّهِ، عَلَى خِلَافِهِمْ أَمَرَ رَبِّهِمْ، وَكُفْرِهِمْ بِهِ {لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ}، وَمَنْ تَبِعَكَ وَصَدَّقَكَ وَآمَنَ بِكَ، وَبِمَا جِئْتُ بِهِ مَعَكَ {مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا}، يَقُولُ: لِتَرْجِعَنَّ أَنْتَ وَهُمْ فِي دِينِنَا وَمَا نَحْنُ عَلَيْهِ قَالَ شُعَيْبٌ مُجِيبًا لَهُمْ: {أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ}. وَمَعْنَى الْكَلَامِ: أَنْ شُعَيْبًا قَالَ لِقَوْمِهِ: أَتُخْرِجُونَنَا مِنْ قَرْيَتِكُمْ، وَتَصُدُّونَنَا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ، وَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ لِذَلِكَ؟ ثُمَّ أُدْخِلَتْ “ أَلِفُ “ الِاسْتِفْهَامِ عَلَى “ وَاوِ “ “ وَلَوْ “.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَقُولُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: قَالَ شُعَيْبٌ لِقَوْمِهِ إِذْ دَعَوْهُ إِلَى الْعَوْدِ إِلَى مِلَّتِهِمْ، وَالدُّخُولِ فِيهَا، وَتَوَعَّدُوهُ بِطَرْدِهِ وَمَنْ تَبِعَهُ مِنْ قَرْيَتِهِمْ إِنْ لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ هُوَ وَهُمْ: {قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا}، يَقُولُ: قَدْ اخْتَلَقْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا، وَتُخُرِّصْنَا عَلَيْهِ مِنَ الْقَوْلِ بَاطِلًا إِنْ نَحْنُ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ، فَرَجَعْنَا فِيهَا بَعْدَ إِذْ أَنْقَذَنَا اللَّهُ مِنْهَا، بِأَنْ بَصَّرَنَا خَطَأَهَا وَصَوَابَ الْهُدَى الَّذِي نَحْنُ عَلَيْهِ وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَرْجِعَ فِيهَا فَنَدِينُ بِهَا، وَنَتْرُكُ الْحَقَّ الَّذِي نَحْنُ عَلَيْهِ {إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا} إِلَّا أَنْ يَكُونَ سُبِقَ لَنَا فِي عِلْمِ اللَّهِ أَنَّا نَعُودُ فِيهَا، فَيَمْضِي فِينَا حِينَئِذٍ قَضَاءُ اللَّهِ، فَيُنَفِّذُ مَشِيئَتَهُ عَلَيْنَا {وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا}، يَقُولُ: فَإِنَّ عِلْمَ رَبِّنَا وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ فَأَحَاطَ بِهِ، فَلَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ كَانَ، وَلَا شَيْءٌ هُوَ كَائِنٌ. فَإِنْ يَكُنْ سَبْقَ لَنَا فِي عِلْمِهِ أَنَّا نَعُودُ فِي مِلَّتِكُمْ، وَلَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ كَانَ وَلَا شَيْءٌ هُوَ كَائِنٌ، فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ مَا قَدْ سَبَقَ فِي عِلْمِهِ، وَإِلَّا فَإِنَّا غَيْرُ عَائِدِينَ فِي مِلَّتِكُمْ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ، قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ قَالَ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ قَالَ، حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: {قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ}، يَقُولُ: مَا يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَعُودَ فِي شِرْكِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا، إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا، فَاَللَّهُ لَا يَشَاءُ الشِّرْكَ، وَلَكِنْ نَقُولُ: إِلَّا أَنْ يَكُونَ اللَّهُ قَدْ عَلِمَ شَيْئًا، فَإِنَّهُ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا. وَقَوْلُهُ: {عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا}، يَقُولُ: عَلَى اللَّهِ نَعْتَمِدُ فِي أُمُورِنَا وَإِلَيْهِ نَسْتَنِدُ فِيمَا تَعِدُونَنَا بِهِ مِنْ شَرِّكُمْ، أَيُّهَا الْقَوْمُ، فَإِنَّهُ الْكَافِي مَنْ تَوَكَّلَ عَلَيْهِ. ثُمَّ فَزِعَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِلَى رَبِّهِ بِالدُّعَاءِ عَلَى قَوْمِهِ إِذْ أَيَّسَ مِنْ فَلَاحِهِمْ، وَانْقَطَعَ رَجَاؤُهُ مِنْ إِذْعَانِهِمْ لِلَّهِ بِالطَّاعَةِ، وَالْإِقْرَارِ لَهُ بِالرِّسَالَةِ، وَخَافَ عَلَى نَفْسِهِ وَعَلَى مَنِ اتَّبَعَهُ مِنْ مُؤْمِنِي قَوْمِهِ مِنْ فَسَقَتِهِمُ الْعَطَبَ وَالْهَلَكَةَ بِتَعْجِيلِ النِّقْمَةِ، فَقَالَ: {رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ}، يَقُولُ: احْكُمْ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ بِحُكْمِكَ الْحَقِّ الَّذِي لَا جَوْرَ فِيهِ وَلَا حَيْفَ وَلَا ظُلْمَ، وَلَكِنَّهُ عَدْلٌ وَحَقٌّ {وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ}، يَعْنِي: خَيْرُ الْحَاكِمِينَ. ذَكَرَ الْفَرَّاءِ أَنَّ أَهْلَ عُمَانَ يُسَمُّونَ الْقَاضِيَ “ الْفَاتِحَ “ وَ“ الْفَتَّاحَ “. وَذَكَرَ غَيْرُهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ بِكَلَامِ الْعَرَبِ: أَنَّهُ مِنْ لُغَةِ مُرَادٍ، وَأَنْشَدَ لِبَعْضِهِمْ بَيْتًا وَهُوَ: أَلَّا أَبْلِـغْ بَنـي عُصْـمٍ رَسُـولًا *** بِـأَنِّي عَـنْ فُتَـاحَتِكُمْ غَنِـيُّ وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ، حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ مِسْعَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: مَا كُنْتُ أَدْرِي مَا قَوْلُهُ: {رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ}، حَتَّى سَمِعْتُ ابْنَةَ ذِي يَزَنَ تَقُولُ: “ تَعَالَ أُفَاتِحُكَ “، تَعْنِي: أُقَاضِيكَ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ قَالَ، حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ: {رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ}، يَقُولُ: اقْضِ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا ابْنُ دُكَيْنٍ قَالَ، حَدَّثَنَا مِسْعَرٌ قَالَ، سَمِعْتُ قَتَادَةَ يَقُولُ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَا كُنْتُ أَدْرِي مَا قَوْلُهُ: {رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ}، حَتَّى سَمِعْتُ ابْنَةَ ذِي يَزَنَ تَقُولُ: “ تَعَالَ أُفَاتِحُكَ “. حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ قَالَ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ، حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ: {افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ}، أَيْ: اقْضِ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى قَالَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ قَالَ، حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ: {افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ}: اقْضِ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ قَالَ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ قَالَ، حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ، أَمَّا قَوْلُهُ: {افْتَحْ بَيْنَنَا}، فَيَقُولُ: احْكُمْ بَيْنَنَا. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ، حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ، حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ، قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: افْتَحْ احْكُمْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا، وَ {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا}، [اَلْفَتْحِ: 1] حَكَمْنَا لَكَ حُكْمًا مُبِينًا. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ، حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ، حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: “ افْتَحْ “، اقْضِ. حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَدَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ قَالَ، حَدَّثَنَا مِسْعَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمْ أَكُنْ أَدْرِي مَا {افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ}، حَتَّى سَمِعْتُ ابْنَةَ ذِي يَزَنَ تَقُولُ لِزَوْجِهَا: “ انْطَلَقَ أُفَاتِحُكَ “.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {وَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْبًا إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَقَالَتِ الْجَمَاعَةُ مِنْ كَفَرَةِ رِجَالِ قَوْمِ شُعَيْبٍ وَهُمُ “ الْمَلَأُ “ الَّذِينَ جَحَدُوا آيَاتِ اللَّهِ، وَكَذَّبُوا رَسُولَهُ، وَتَمَادَوْا فِي غَيِّهِمْ، لِآخَرِينَ مِنْهُمْ: لَئِنْ أَنْتُمُ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْبًا عَلَى مَا يَقُولُ، وَأَجَبْتُمُوهُ إِلَى مَا يَدْعُوكُمْ إِلَيْهِ مِنْ تَوْحِيدِ اللَّهِ، وَالِانْتِهَاءِ إِلَى أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ، وَأَقْرَرْتُمْ بِنُبُوَّتِهِ {إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ}، يَقُولُ: لَمَغْبُونُونَ فِي فِعْلِكُمْ، وَتَرْكِكُمْ مِلَّتِكُمُ الَّتِي أَنْتُمْ عَلَيْهَا مُقِيمُونَ، إِلَى دِينِهِ الَّذِي يَدْعُوكُمْ إِلَيْهِ وَهَالِكُونَ بِذَلِكَ مِنْ فِعْلِكُمْ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَقُولُ: فَأَخَذَتِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِ شُعَيْبٍ، الرَّجْفَةُ. وَقَدْ بَيَّنْتُ مَعْنَى “ الرَّجْفَةِ “ قَبْلُ، وَأَنَّهَا الزَّلْزَلَةُ الْمُحَرِّكَةُ لِعَذَابِ اللَّهِ. {فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ}، عَلَى رَكْبِهِمْ، مَوْتَى هَلْكَى. وَكَانَتْ صِفَةُ الْعَذَابِ الَّذِي أَهْلَكَهُمُ اللَّهُ بِهِ، كَمَا:- حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ قَالَ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ قَالَ، حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا}، قَالَ: إِنَّ اللَّهَ بَعَثَ شُعَيْبًا إِلَى مَدْيَنَ، وَإِلَى أَصْحَابِ الْأَيْكَةِ وَ“ الْأَيْكَةُ “، هِيَ الْغَيْضَةُ مِنَ الشَّجَرِ وَكَانُوا مَعَ كُفْرِهِمْ يَبْخَسُونَ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ، فَدَعَاهُمْ فَكَذَّبُوهُ، فَقَالَ لَهُمْ مَا ذَكَرَ اللَّهُ فِي الْقُرْآنِ، وَمَا رَدُّوا عَلَيْهِ. فَلَمَّا عَتَوْا وَكَذَّبُوهُ، سَأَلُوهُ الْعَذَابَ، فَفَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بَابًا مِنْ أَبْوَابِ جَهَنَّمَ، فَأَهْلَكَهُمُ الْحَرُّ مِنْهُ، فَلَمْ يَنْفَعْهُمْ ظِلٌ وَلَا مَاءٌ. ثُمَّ إِنَّهُ بَعَثَ سَحَابَةً فِيهَا رِيحٌ طَيِّبَةٌ، فَوَجَدُوا بَرْدَ الرِّيحِ وَطِيبَهَا، فَتَنَادَوا: الظُّلَّةَ، عَلَيْكُمْ بِهَا “! فَلَمَّا اجْتَمَعُوا تَحْتَ السَّحَابَةِ رِجَالُهُمْ وَنِسَاؤُهُمْ وَصِبْيَانُهُمْ، انْطَبَقَتْ عَلَيْهِمْ فَأَهْلَكَتْهُمْ، فَهُوَ قَوْلُهُ: {فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ}، [سُورَةُ الشُّعَرَاءِ: 189]. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ، حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ قَالَ، كَانَ مِنْ خَبَرِ قِصَّةِ شُعَيْبٍ وَخَبَرِ قَوْمِهِ مَا ذَكَرَ اللَّهُ فِي الْقُرْآنِ. كَانُوا أَهْلَ بَخْسٍ لِلنَّاسِ فِي مَكَايِيلِهِمْ وَمَوَازِينِهِمْ، مَعَ كُفْرِهِمْ بِاَللَّهِ، وَتَكْذِيبِهِمْ نَبِيَّهُمْ. وَكَانَ يَدْعُوهُمْ إِلَى اللَّهِ وَعِبَادَتِهِ، وَتَرْكِ ظُلْمِ النَّاسِ وَبَخْسِهِمْ فِي مَكَايِيلِهِمْ وَمَوَازِينِهِمْ، فَقَالَ نُصْحًا لَهُمْ، وَكَانَ صَادِقًا: {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ}، [هُودٍ: 88]. قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: «وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا ذَكَرَ لِي يَعْقُوبُ بْنُ أَبِي سَلَمَةَ إِذَا ذَكَرَ شُعَيْبًا قَالَ: “ ذَاكَ خَطِيبُ الْأَنْبِيَاءِ “!» لِحُسْنِ مُرَاجَعَتِهِ قَوْمَهُ فِيمَا يُرَادُ بِهِمْ. فَلَمَّا كَذَّبُوهُ وَتَوَعَّدُوهُ بِالرَّجْمِ وَالنَّفْيِ مِنْ بِلَادِهِمْ، وَعَتَوْا عَلَى اللَّهِ، أَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ، إِنَّهُ كَانَ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ. فَبَلَغَنِي أَنَّ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ مَدْيَنَ يُقَالُ لَهُ: “ عَمْرُو بْنُ جَلْهَاءَ، لِمَا رَآهَا قَالَ: يَـا قَـوْمِ إِنَّ شُـعَيْبًا مُرْسَـلٌ فَـذَرُوا *** عَنْكُـمْ سُـمَيْرًا وَعِمْـرَانَ بْـنَ شَـدَّادِ إنِّـي أَرَى غَبْيَـةً يَـا قَـوْمِ قَدْ طَلَعَتْ *** تَدْعُـو بِصَـوْتٍ عَـلَى صَمَّانَةِ الْوَادِي وَإِنَّكُـمْ لَـنْ تَـرَوْا فِيهَـا ضَحَـاءَ غَدٍ *** إِلَّا الـرَّقِيمَ يُمَشِّـي بَيْـنَ أنْجَـادِ وَ “ سُمَيْرُ “وَ “ عِمْرَانُ “، كَاهِنَاهُمْ، وَ“ الرَّقِيمُ “، كَلْبُهُمْ. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ، حَدَّثَنَا سَلَمَةُ قَالَ، حَدَّثَنِي ابْنُ إِسْحَاقَ قَالَ: فَبَلَغَنِي، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ، أَنَّ اللَّهَ سَلَّطَ عَلَيْهِمُ الْحَرَّ حَتَّى أَنْضَجَهُمْ، ثُمَّ أَنْشَأَ لَهُمْ الظُّلَّةَ كَالسَّحَابَةِ السَّوْدَاءِ، فَلَمَّا رَأَوْهَا ابْتَدَرُوهَا يَسْتَغِيثُونَ بِبَرْدِهَا مِمَّا هُمْ فِيهِ مِنَ الْحَرِّ، حَتَّى إِذَا دَخَلُوا تَحْتَهَا، أَطْبَقَتْ عَلَيْهِمْ، فَهَلَكُوا جَمِيعًا، وَنَجَّا اللَّهُ شُعَيْبًا وَاَلَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَتِهِ. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ، حَدَّثَنَا سَلَمَةُ قَالَ، حَدَّثَنِي أَبُو عَبْدِ اللَّهِ البَجَلِيُّ قَالَ: “ أَبُو جَادٍ “ وَ“ هوّز “وَ “ حُطّي “وَ “ كَلَمُون “وَ “ سعفص “وَ “ قرشت “، أَسْمَاءُ مُلُوكِ مَدْيَنَ، وَكَانَ مِلِكَهُمْ يَوْمَ الظُّلَّةِ فِي زَمَانِ شُعَيْبٍ “ كَلَمُونٌ “، فَقَالَتْ أُخْتُ كَلَمُونِ تَبْكِيهِ: كَلَمُـونٌ هَـدَّ رُكْنِـي *** هُلْكُـهُ وَسْـطَ المَحَلَّـهْ سَـيِّدُ الْقَـوْمِ أَتَـاهُ الْـ *** حَـتْفُ نَـارًا وَسْـطَ ظُلَّـهْ جُـعِلَتْ نَـارًا عَلَيْهِـمْ، *** دَارُهُـمْ كَالْمُضْمَحِلَّـهْ
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَانُوا هُمُ الْخَاسِرِينَ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: فَأَهْلَكَ الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا فِلَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ، فَأَبَادَهُمْ، فَصَارَتْ قَرْيَتُهُمْ مِنْهُمْ خَاوِيَةً خَلَاءً {كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا}، يَقُولُ: كَأَنْ لَمْ يَنْـزِلُوا قَطُّ وَلَمْ يَعِيشُوا بِهَا حِينَ هَلَكُوا. يُقَالُ: “ غَنِيَ فَلَانَ بِمَكَانِ كَذَا، فَهُوَ يَغْنَى بِهِ غِنًى وغُنِيًّا “، إِذَا نـَزَلَ بِهِ وَكَانَ بِهِ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ. وَلَقَـدْ يَغْنَـى بِهَـا جِـيرَانُكِ الْ *** مُمْسِـكُو مِنْـكِ بِعَهْـدٍ وَوِصَـالِ وَقَالَ رُؤْبَةُ: وَعَهْدُ مَغْنَى دِمْنَةٍ بِضَلْفَعَا *** إِنَّمَا هُوَ “ مَفْعَلٌ “ مَنْ “ غَنِيَ “. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى قَالَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ قَالَ، حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ. {كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا}: كَأَنْ لَمْ يَعِيشُوا، كَأَنْ لَمْ يَنْعَمُوا. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: {كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا}، يَقُولُ: كَأَنَّ لَمْ يَعِيشُوا فِيهَا. حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ، قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ: {كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا}، كَأَنَّ لَمْ يَكُونُوا فِيهَا قَطُّ. وَقَوْلُهُ: {الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَانُوا هُمُ الْخَاسِرِينَ}، يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ اتَّبَعُوا شُعَيْبًا الْخَاسِرِينَ، بَلْ الَّذِينَ كَذَّبُوهُ كَانُوا هُمُ الْخَاسِرِينَ الْهَالِكِينَ. لِأَنَّهُ أَخْبَرَ عَنْهُمْ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: أَنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا قَالُوا لِلَّذِينِ أَرَادُوا اتِّبَاعَهُ: {لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْبًا إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ}، فَكَذَّبَهُمُ اللَّهُ بِمَا أَحَلَّ بِهِمْ مِنْ عَاجِلِ نَكالِهِ، ثُمَّ قَالَ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا خَسِرَ تُبَّاعُ شُعَيْبٍ، بَلْ كَانَ الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا لَمَّا جَاءَتْ عُقُوبَةُ اللَّهِ، هُمُ الْخَاسِرِينَ، دُونَ الَّذِينَ صَدَّقُوا وَآمَنُوا بِهِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسَى عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: فَأَدْبَرَ شُعَيْبٌ عَنْهُمْ، شَاخِصًا مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِهِمْ حِينَ أَتَاهُمْ عَذَابَ اللَّهِ، وَقَالَ لَمَّا أَيْقَنَ بِنُـزُولِ نِقْمَةِ اللَّهِ بِقَوْمِهِ الَّذِينَ كَذَّبُوهُ، حُزْنًا عَلَيْهِمْ: {يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي}، وَأَدَّيْتُ إِلَيْكُمْ مَا بَعَثَنِي بِهِ إِلَيْكُمْ، مِنْ تَحْذِيرِكُمْ غَضَبَهُ عَلَى إِقَامَتِكُمْ عَلَى الْكُفْرِ بِهِ، وَظَلَمِ النَّاسِ أَشْيَاءَهُمْ {وَنَصَحْتُ لَكُمْ}، بِأَمْرِي إِيَّاكُمْ بِطَاعَةِ اللَّهِ، وَنَهْيِكُمْ عَنْ مَعْصِيَتِهِ- {فَكَيْفَ آسَى}، يَقُولُ: فَكَيْفَ أَحْزَنُ عَلَى قَوْمٍ جَحَدُوا وَحْدَانِيَّةَ اللَّهِ وَكَذَّبُوا رَسُولَهُ، وَأَتَوَجَّعُ لِهَلَاكِهِمْ؟ وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ. ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ قَالَ، حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ: {فَكَيْفَ آسَى}، يَعْنِي: فَكَيْفَ أَحْزَنُ؟ حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ قَالَ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ قَالَ، حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: {فَكَيْفَ آسَى}، يَقُولُ: فَكَيْفَ أَحْزَنُ؟ حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ، حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ قَالَ: أَصَابَ شُعَيْبًا عَلَى قَوْمِهِ حُزْنٌ لِمَا يَرَى بِهِمْ مِنْ نِقْمَةِ اللَّهِ، ثُمَّ قَالَ يُعَزِّي نَفْسَهُ، فِيمَا ذَكَرَ اللَّهُ عَنْهُ: (، {يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسَى عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ}.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مُعَرِّفَهُ سُنَّتَهُ فِي الْأُمَمِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِ أُمَّتِهِ، وَمُذَكِّرَ مَنْ كَفَرَ بِهِ مِنْ قُرَيْشٍ، لِيَنْـزَجِرُوا عَمَّا كَانُوا عَلَيْهِ مُقِيمِينَ مِنَ الشِّرْكِ بِاَللَّهِ، وَالتَّكْذِيبِ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ}، قَبْلَكَ {إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ}، وَهُوَ الْبُؤْسُ وَشَظَفُ الْمَعِيشَةِ وَضِيقُهَا وَ“ الضَّرَّاءُ “، وَهِيَ الضُّرُّ وَسُوءُ الْحَالِ فِي أَسْبَابِ دُنْيَاهُمْ {لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ}، يَقُولُ: فَعَلْنَا ذَلِكَ لِيَتَضَرَّعُوا إِلَى رَبِّهِمْ، وَيَسْتَكِينُوا إِلَيْهِ، وَيُنِيبُوا، بِالْإِقْلَاعِ عَنْ كُفْرِهِمْ، وَالتَّوْبَةِ مِنْ تَكْذِيبِ أَنْبِيَائِهِمْ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ. ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ قَالَ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُفَضَّلٍ قَالَ، حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: {أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ}، يَقُولُ: بِالْفَقْرِ وَالْجُوعِ. وَقَدْ ذَكَرْنَا فِيمَا مَضَى الشَّوَاهِدَ عَلَى صِحَّةِ الْقَوْلِ بِمَا قُلْنَا فِي مَعْنَى: “ الْبَأْسَاءِ “، وَ“ الضَّرَّاءِ “، بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ. وَقِيلَ: “ يَضَّرَّعُونَ “، وَالْمَعْنَى: يَتَضَرَّعُونَ، وَلَكِنْ أُدْغِمَتِ “ التَّاءُ “ فِي “ الضَّادِ “، لِتَقَارُبِ مَخْرَجِهِمَا.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَقَالُوا قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: {ثُمَّ بَدَّلْنَا} أَهْلَ الْقَرْيَةِ الَّتِي أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ {مَكَانَ السَّيِّئَةِ}، وَهِيَ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ. وَإِنَّمَا جَعَلَ ذَلِكَ “ سَيِّئَةً “، لِأَنَّهُ مِمَّا يَسُوءُ النَّاسَ وَلَا تَسُوءُهُمُ “ الْحَسَنَةُ “، وَهِيَ الرَّخَاءُ وَالنِّعْمَةُ وَالسِّعَةُ فِي الْمَعِيشَةِ {حَتَّى عَفَوْا}، يَقُولُ: حَتَّى كَثُرُوا. وَكَذَلِكَ كَلُّ شَيْءٍ كَثُرَ، فَإِنَّهُ يُقَالُ فِيهِ: “ قَدْ عَفَا “، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ: ولَكِنَّـا نُعِـضُّ السَّـيْفَ مِنْهَـا *** بِأَسْـوُقِ عَافِيَـاتِ الشَّـحْمِ كُـومِ وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ. ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى قَالَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ: {مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ}، قَالَ: مَكَانَ الشِّدَّةِ رَخَاءً {حَتَّى عَفَوْا}. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ، حَدَّثَنَا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، فِي قَوْلِ اللَّهِ: {مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ}، قَالَ: “ السَّيِّئَةُ “، الشَّرُّ، وَ“ الْحَسَنَةُ “، الرَّخَاءُ وَالْمَالُ وَالْوَلَدُ. حَدَّثَنَا الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: {مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ}، قَالَ: “ السَّيِّئَةُ “، الشَّرُّ، وَ“ الْحَسَنَةُ “، الْخَيْرُ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ قَالَ، حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ: {ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ}، يَقُولُ: مَكَانَ الشِّدَّةِ الرَّخَاءَ. حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ، قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ: {ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا}، قَالَ: بَدَّلْنَا مَكَانَ مَا كَرِهُوا مَا أَحَبُّوا فِي الدُّنْيَا {حَتَّى عَفَوْا}، مِنْ ذَلِكَ الْعَذَابِ {وَقَالُوا قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ}. وَاخْتَلَفُوا فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {حَتَّى عَفَوْا}. فَقَالَ بَعْضُهُمْ نَحْوَ الَّذِي قُلْنَا فِيهِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ قَالَ، حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ: {حَتَّى عَفَوْا}، يَقُولُ: حَتَّى كَثُرُوا وَكَثُرَتْ أَمْوَالُهُمْ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ، حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ، حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: {حَتَّى عَفَوْا}، قَالَ: جَمُّوا. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ، حَدَّثَنَا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: {حَتَّى عَفَوْا}، قَالَ: كَثُرَتْ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلَادُهُمْ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ قَالَ، حَدَّثَنَا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، مِثْلَهُ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ قَالَ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُفَضَّلٍ قَالَ، حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: {حَتَّى عَفَوْا}، حَتَّى كَثُرُوا. حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ مُغِيرَةَ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ: {حَتَّى عَفَوْا}، قَالَ: حَتَّى جَمُّوا وَكَثُرُوا. قَالَ، حَدَّثَنَا جَابِرُ بنُ نُوحٍ، عَنْ أَبِي رَوْقٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: {حَتَّى عَفَوْا}، قَالَ: حَتَّى جَمُّوا. قَالَ، حَدَّثَنَا الْمُحَارِبِيُّ، عَنْ جُوَيْبِرٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ: {حَتَّى عَفَوْا}، يَعْنِي: جَمُّوا وَكَثُرُوا. قَالَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَجَاءٍ، عَنِ ابْنِ جُرَيجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: {حَتَّى عَفَوْا}، قَالَ: حَتَّى كَثُرَتْ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلَادُهُمْ. حَدَّثَنَا يُونُسُ قَالَ، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ، قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ: {حَتَّى عَفَوْا}، كَثُرُوا كَمَا يَكْثُرُ النَّبَاتُ وَالرِّيشُ، ثُمَّ أَخَذَهُمْ عِنْدَ ذَلِكَ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ. وَقَالَ آخَرُونَ: مَعْنَى ذَلِكَ: حَتَّى سُرُّوا. ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى قَالَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ: {حَتَّى عَفَوْا}، يَقُولُ: حَتَّى سُرُّوا بِذَلِكَ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ قَتَادَةُ فِي مَعْنَى: “ عَفْوًا “، تَأْوِيلٌ لَا وَجْهَ لَهُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ. لِأَنَّهُ لَا يُعْرَفُ “ الْعَفْوُ “ بِمَعْنَى السُّرُورِ، فِي شَيْءٍ مِنْ كَلَامِهَا، إِلَّا أَنْ يَكُونَ أَرَادَ: حَتَّى سُرُّوا بِكَثْرَتِهِمْ وَكَثْرَةِ أَمْوَالِهِمْ، فَيَكُونُ ذَلِكَ وَجْهًا، وَإِنْ بَعُدَ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: {وَقَالُوا قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ}، فَإِنَّهُ خَبَرٌ مِنَ اللَّهِ عَنْ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ الَّذِينَ أَبْدَلَهُمْ مَكَانَ الْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ الَّتِي كَانُوا فِيهَا، اسْتِدْرَاجًا وَابْتِلَاءً، أَنَّهُمْ قَالُوا إِذْ فَعَلَ ذَلِكَ بِهِمْ: هَذِهِ أَحْوَالٌ قَدْ أَصَابَتْ مَنْ قَبِلَنَا مِنْ آبَائِنَا، وَنَالَتْ أَسْلَافَنَا، وَنَحْنُ لَا نَعْدُو أَنْ نَكُونَ أَمْثَالَهُمْ يُصِيبُنَا مَا أَصَابَهُمْ مِنَ الشِّدَّةِ فِي الْمَعَايِشِ وَالرَّخَاءِ فِيهَا وَهِيَ “ السَّرَّاءُ “، لِأَنَّهَا تَسُرُّ أَهْلَهَا. وَجَهِلَ الْمَسَاكِينُ شُكْرَ نِعْمَةِ اللَّهِ، وَأَغْفَلُوا مِنْ جَهْلِهِمُ اسْتِدَامَةَ فَضْلِهِ بِالْإِنَابَةِ إِلَى طَاعَتِهِ، وَالْمُسَارَعَةِ إِلَى الْإِقْلَاعِ عَمَّا يَكْرَهُهُ بِالتَّوْبَةِ، حَتَّى أَتَاهُمْ أَمْرُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ. يَقُولُ جَلَّ جَلَالُهُ: {فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ}، يَقُولُ: فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْهَلَاكِ وَالْعَذَابِ فَجْأَةً، أَتَاهُمْ عَلَى غِرَّةٍ مِنْهُمْ بِمَجِيئِهِ، وَهُمْ لَا يَدْرُونَ وَلَا يَعْلَمُونَ أَنَّهُ يَجِيئُهُمْ، بَلْ هُمْ بِأَنَّهُ آتِيهِمْ مُكَذِّبُونَ حَتَّى يُعَايِنُوهُ وَيَرَوْهُ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: أَفَأَمِنَ، يَا مُحَمَّدُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، وَيَجْحَدُونَ آيَاتِهِ، اسْتِدْرَاجَ اللَّهِ إِيَّاهُمْ بِمَا أَنْعَمَ بِهِ عَلَيْهِمْ فِي دُنْيَاهُمْ مِنْ صِحَّةِ الْأَبْدَانِ وَرَخَاءِ الْعَيْشِ، كَمَا اسْتَدْرَجَ الَّذِينَ قَصَّ عَلَيْهِمْ قَصَصَهُمْ مِنَ الْأُمَمِ قَبْلَهُمْ، فَإِنَّ مَكْرَ اللَّهِ لَا يَأْمَنُهُ، يَقُولُ: لَا يَأْمَنُ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ اسْتِدْرَاجًا، مَعَ مَقَامِهِمْ عَلَى كُفْرِهِمْ، وَإِصْرَارِهِمْ عَلَى مَعْصِيَتِهِمْ {إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} وَهُمُ الْهَالِكُونَ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا أَنْ لَوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَقُولُ: أَوَلَمْ يَبِنَ لِلَّذِينِ يُسْتَخْلَفُونَ فِي الْأَرْضِ بَعْدَ هَلَاكِ آخَرِينَ قَبْلَهُمْ كَانُوا أَهْلَهَا، فَسَارُوا سِيرَتَهُمْ، وَعَمِلُوا أَعْمَالَهُمْ، وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ {أَنْ لَوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ}، يَقُولُ: أَنْ لَوْ نَشَاءُ فَعَلْنَا بِهِمْ كَمَا فَعَلْنَا بِمَنْ قَبْلَهُمْ، فَأَخَذْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ، وَعَجَّلْنَا لَهُمْ بَأْسَنَا كَمَا عَجَّلْنَاهُ لِمَنْ كَانَ قَبْلَهُمْ مِمَّنْ وَرِثُوا عَنْهُ الْأَرْضَ، فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ {وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ}، يَقُولُ: وَنَخْتِمُ عَلَى قُلُوبِهِمْ (فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ)، مَوْعِظَةً وَلَا تَذْكِيرًا، سَمَاعَ مُنْتَفِعٍ بِهِمَا. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ. ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ حَدَّثَنَا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: {أَوَلَمْ يَهْدِ}، قَالَ: يُبَيَّنْ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ قَالَ، حَدَّثَنَا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، مَثَلَهُ. قَالَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ قَالَ، حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلُهُ: {أَوَلَمْ يَهْدِ}، أَوَلَمْ يُبَيَّنْ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ قَالَ، حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ، حَدَّثَنِي عَمِّي قَالَ، حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلُهُ: {أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا}، يَقُولُ: أَوَلَمْ يَتَبَيَّنْ لَهُمْ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ قَالَ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُفَضَّلٍ قَالَ، حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: {أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا}، يَقُولُ: أَوَلَمْ يَتَبَيَّنْ لِلَّذِينِ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا هُمُ الْمُشْرِكُونَ. حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ، قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ: {أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا}، أَوَلَمْ نُبَيِّنْ لَهُمْ {أَنْ لَوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ}، قَالَ: وَ“ الْهُدَى “، الْبَيَانُ الَّذِي بُعِثَ هَادِيًا لَهُمْ، مُبَيِّنًا لَهُمْ حَتَّى يَعْرِفُوا. لَوْلَا الْبَيَانُ لَمْ يَعْرِفُوا.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {تِلْكَ الْقُرَى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَائِهَا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: هَذِهِ الْقُرَى الَّتِي ذَكَرْتُ لَكَ، يَا مُحَمَّدُ، أَمَرَهَا وَأَمْرَ أَهْلِهَا يَعْنِي: قَوْمَ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمَ لُوطٍ وَشُعَيْبٍ " {نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَائِهَا} " فَنُخْبِرُكَ عَنْهَا وَعَنْ أَخْبَارِ أَهْلِهَا، وَمَا كَانَ مِنْ أَمْرِهِمْ وَأَمْرِ رُسُلِ اللَّهِ الَّتِي أَرْسَلَتُ إِلَيْهِمْ، لِتَعْلَمَ أَنَا نَنْصُرُ رُسُلنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا عَلَى أَعْدَائِنَا وَأَهْلِ الْكُفْرِ بِنَا، وَيُعْلَمَ مُكَذِّبُوكَ مَنْ قَوْمِكَ مَا عَاقِبَةُ أَمْرِ مَنْ كَذَّبَ رُسُلَ اللَّهِ، فَيَرْتَدِعُوا عَنْ تَكْذِيبِكَ، وَيُنِيبُوا إِلَى تَوْحِيدِ اللَّهِ وَطَاعَتِهِ " {وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ} "، يَقُولُ: وَلَقَدْ جَاءَتْ أَهْلَ الْقُرَى الَّتِي قَصَصْتُ عَلَيْكَ نَبَّأَهَا، " {رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ} "، يَعْنِي بِالْحُجَجِ الْبَيِّنَاتِ " {فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ} ". [ثُمَّ] اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي تَأْوِيلِ ذَلِكَ. فَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَعْنَاهُ: فَمَا كَانَ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكُونَ الَّذِينَ أَهْلَكْنَاهُمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى لِيُؤْمِنُوا عِنْدَ إِرْسَالِنَا إِلَيْهِمْ بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلِ ذَلِكَ، وَذَلِكَ يَوْمَ أَخْذِ مِيثَاقِهِمْ حِينَ أَخْرَجَهُمْ مِنْ ظَهْرِ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ. ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ قَالَ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ قَالَ، حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيّ: " {فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ} " قَالَ: ذَلِكَ يَوْمَ أَخَذَ مِنْهُمُ الْمِيثَاقَ فَآمَنُوا كُرْهًا. وَقَالَ آخَرُونَ: مَعْنَى ذَلِكَ: فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا عِنْدَ مَجِيءِ الرُّسُلِ، بِمَا سَبَقَ فِي عِلْمِ اللَّهِ أَنَّهُمْ يُكَذِّبُونَ بِهِ يَوْمَ أَخْرَجَهُمْ مِنْ صُلْبِ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ، حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ، حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جريجٍ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنِ الرَّبِيعِ، عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ: "فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ: قَالَ: كَانَ فِي عِلْمِهِ يَوْمَ أَقَرُّوا لَهُ بِالْمِيثَاقِ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ قَالَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ قَالَ، يَحِقُّ عَلَى الْعِبَادِ أَنْ يَأْخُذُوا مِنَ الْعِلْمِ مَا أَبْدَى لَهُمْ رَبُّهُمْ وَالْأَنْبِيَاءُ، وَيَدَّعُوا عِلْمَ مَا أَخْفَى اللَّهُ عَلَيْهِمْ، فَإِنَّ عِلْمَهُ نَافِذٌ فِيمَا كَانَ وَفِيمَا يَكُونُ، وَفِي ذَلِكَ قَالَ: " {وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ} "، قَالَ: نَفَذَ عِلْمُهُ فِيهِمْ، أَيُّهُمُ الْمُطِيعُ مِنَ الْعَاصِي حَيْثُ خَلَقَهُمْ فِي زَمَانِ آدَمَ. وَتَصْدِيقُ ذَلِكَ حَيْثُ قَالَ لِنُوحٍ: {اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ}، [هُودٍ: 48]، وَقَالَ فِي ذَلِكَ: {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ}، [الْأَنْعَامِ: 28]، وَفِي ذَلِكَ قَالَ: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الْإِسْرَاءِ: 15]، وَفِي ذَلِكَ قَالَ: {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النِّسَاءِ: 165]، وَلَا حُجَّةَ لِأَحَدٍ عَلَى اللَّهِ. وَقَالَ آخَرُونَ: مَعْنَى ذَلِكَ: "فَمَا كَانُوا "لَوْ أَحْيَيْنَاهُمْ بَعْدَ هَلَاكِهِمْ وَمُعَايَنَتِهِمْ مَا عَايَنُوا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ، " {لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ}" هَلَاكِهِمْ، كَمَا قَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ}.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ، حَدَّثَنَا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، فِي قَوْلِ اللَّهِ: " {بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ} "، قَالَ: كَقَوْلِهِ: {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَأَشْبَهُ هَذِهِ الْأَقْوَالِ بِتَأْوِيلِ الْآيَةِ وَأَوْلَاهَا بِالصَّوَابِ، الْقَوْلُ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ وَالرَّبِيعِ. وَذَلِكَ أَنَّ مَنْ سَبَقَ فِي عِلْمِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَنَّهُ لَا يُؤْمِنُ بِهِ، فَلَنْ يُؤَمِّنَ أَبَدًا، وَقَدْ كَانَ سَبَقَ فِي عِلْمِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى لِمَنْ هَلَكَ مِنَ الْأُمَمِ الَّتِي قَصَّ نَبَأَهُمْ فِي هَذِهِ السُّورَةِ، أَنَّهُ لَا يُؤْمِنُ أَبَدًا، فَأَخْبَرَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ عَنْهُمْ، أَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا هُمْ بِهِ مُكَذِّبُونَ فِي سَابِقِ عِلْمِهِ، قَبْلَ مَجِيءِ الرُّسُلِ وَعِنْدَ مَجِيئِهِمْ إِلَيْهِمْ. وَلَوْ قِيلَ تَأْوِيلُهُ: فَمَا كَانَ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ وَرِثُوا الْأَرْضَ، يَا مُحَمَّدُ، مِنْ مُشْرِكِي قَوْمِكَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا، الَّذِينَ كَانُوا بِهَا مِنْ عَادٍ وَثَمُودَ، لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبَ بِهِ الَّذِينَ وَرِثُوهَا عَنْهُمْ مِنْ تَوْحِيدِ اللَّهِ وَوَعْدِهِ وَوَعِيدِهِ كَانَ وَجْهًا وَمَذْهَبًا، غَيْرَ أَنِّي لَا أَعْلَمُ قَائِلًا قَالَهُ مِمَّنْ يَعْتَمِدُ عَلَى عِلْمِهِ بِتَأْوِيلِ الْقُرْآنِ. وَأَمَّا الَّذِي قَالَهُ مُجَاهِدٌ مِنْ أَنَّ مَعْنَاهُ: لَوْ رَدُّوا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا فَتَأْوِيلٌ لَا دَلَالَةَ عَلَيْهِ مِنْ ظَاهِرِ التَّنْـزِيلِ، وَلَا مِنْ خَبَّرٍ عَنِ الرَّسُولِ صَحِيحٍ. وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ، فَأَوْلَى مِنْهُ بِالصَّوَابِ مَا كَانَ عَلَيْهِ مِنْ ظَاهِرِ التَّنـْزِيلِ دَلِيلٌ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: " {كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ} "، فَإِنَّهُ يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: كَمَا طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَعَصَوَا رُسُلَهُ مِنْ هَذِهِ الْأُمَمِ الَّتِي قَصَصْنَا عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ، يَا مُحَمَّدُ، فِي هَذِهِ السُّورَةِ، حَتَّى جَاءَهُمْ بَأْسُ اللَّهِ فَهَلَكُوا بِهِ " {كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ}"، الَّذِينَ كَتَبَ عَلَيْهِمْ أَنَّهُمْ لَا يُؤَمِّنُونَ أَبَدًا مِنْ قَوْمِكَ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَلَمْ نَجِدْ لِأَكْثَرَ أَهْلِ هَذِهِ الْقُرَى الَّتِي أَهْلَكْنَاهَا وَاقْتَصَصْنَا عَلَيْكَ، يَا مُحَمَّدُ، نَبَأَهَا "مِنْ عَهْدٍ"، يَقُولُ: مِنْ وَفَاءٍ بِمَا وَصَّيْنَاهُمْ بِهِ، مِنْ تَوْحِيدِ اللَّهِ، وَاتِّبَاعِ رُسُلِهِ، وَالْعَمَلِ بِطَاعَتِهِ، وَاجْتِنَابِ مَعَاصِيهِ، وَهَجْرِ عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ وَالْأَصْنَامِ. و"الْعَهْدُ"، هُوَ الْوَصِيَّةُ، قَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِيمَا مَضَى بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ. " {وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ} "، يَقُولُ: وَمَا وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ إِلَّا فَسَقَةً عَنْ طَاعَةِ رَبِّهِمْ، تَارِكِينَ عَهْدَهُ وَوَصِيَّتَهُ. وَقَدْ بَيَّنَّا مَعْنَى "الْفِسْقِ"، قَبِلَ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ، حَدَّثَنَا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: " {وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ} " قَالَ: الْقُرُونَ الْمَاضِيَةَ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ، حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ، حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جريجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَوْلَهُ: " {وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ} "، الْآيَةَ، قَالَ: الْقُرُونُ الْمَاضِيَةُ. و"عَهْدُهُ"، الَّذِي أَخَذَهُ مِنْ بَنِي آدَمَ فِي ظَهْرِ آدَمَ وَلَمْ يَفُوا بِهِ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ، حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ، حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنِ الرَّبِيعِ، عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ: " {وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ} " قَالَ: فِي الْمِيثَاقِ الَّذِي أَخَذَهُ فِي ظَهْرِ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ، حَدَّثَنِي عَمِّي قَالَ، حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: " {وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ} " وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ إِنَّمَا أَهْلَكَ الْقُرَى لِأَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا حَفِظُوا مَا أَوْصَاهُمْ بِهِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَظَلَمُوا بِهَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَهُودٍ وَصَالِحٍ وَلُوطٍ وَشُعَيْبٍ موسى بْنِ عِمْرَانَ. و"الْهَاءُ وَالْمِيمُ" اللَّتَانِ فِي قَوْلِهِ: "مِنْ بَعْدِهِمْ"، هِيَ كِنَايَةُ ذِكْرِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ الَّتِي ذُكِرَتْ مَنْ أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ إِلَى هَذَا الْمَوْضِعِ. "بِآيَاتِنَا" يَقُولُ: بِحُجَجِنَا وَأَدِلَّتِنَا "إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ"، يَعْنِي: إِلَى جَمَاعَةِ فِرْعَوْنَ مِنَ الرِّجَالِ " {فَظَلَمُوا بِهَا} "، يَقُولُ: فَكَفَرُوا بِهَا. و"الْهَاءُ وَالْأَلِفُ" اللَّتَانِ فِي قَوْلِهِ: "بِهَا" عَائِدَتَانِ عَلَى "الْآيَاتِ". وَمَعْنَى ذَلِكَ: فَظَلَمُوا بِآيَاتِنَا الَّتِي بَعَثْنَا بِهَا مُوسَى إِلَيْهِمْ وَإِنَّمَا جَازَ أَنْ يُقَالَ: " {فَظَلَمُوا بِهَا}، " بِمَعْنَى: كَفَرُوا بِهَا، لِأَنَّ الظُّلْمَ وَضْعُ الشَّيْءِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ. وَقَدْ دَلَّلْتُ فِيمَا مَضَى عَلَى أَنَّ ذَلِكَ مَعْنَاهُ، بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ. وَالْكَفْرُ بِآيَاتِ اللَّهِ، وَضْعٌ لَهَا فِي غَيْرِ مَوْضِعهَا، وَصَرْفٌ لَهَا إِلَى غَيْرِ وَجْهِهَا الَّذِي عُنِيَتْ بِهِ " فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ "، يَقُولُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَانْظُرْ يَا مُحَمَّدُ، بِعَيْنِ قَلْبِكَ، كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَفْسَدُوا فِي الْأَرْضِ؟ يَعْنِي فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ، إِذْ ظَلَمُوا بِآيَاتِ اللَّهِ الَّتِي جَاءَهُمْ بِهَا مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَكَانَ عَاقِبَتَهُمْ أَنَّهُمْ أُغْرِقُوا جَمِيعًا فِي الْبَحْرِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {وَقَالَ مُوسَى يَا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِ الْعَالَمِينَ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَقُولُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: وَقَالَ مُوسَى لِفِرْعَوْنَ: يَا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لَا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ قَالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِهَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: اخْتَلَفَتِ الْقَرَأَةُ فِي قِرَاءَةِ قَوْلِهِ: " {حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لَا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ} ". فَقَرَأَهُ جَمَاعَةٌ مِنْ قُرَّاءِ الْمَكِّيِّينَ وَالْمَدَنِيِّينَ وَالْبَصْرَةِ وَالْكُوفَةِ: {حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لَا أَقُولَ}، بِإِرْسَالِ "الْيَاءِ" مِنْ "عَلَى"، وَتَرْكِ تَشْدِيدِهَا، بِمَعْنَى: أَنَا حَقِيقٌ بِأَنْ لَا أَقُولُ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ فَوَجَّهُوا مَعْنَى "عَلَى" إِلَى مَعْنَى "الْبَاءِ" كَمَا يُقَالُ: "رَمَيْتُ بِالْقَوْسِ" و"عَلَى الْقَوْسِ"، و"جِئْتُ عَلَى حَالٍ حَسَنَةٍ" و"بِحَالٍ حَسَنَةٍ". وَكَانَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ بِكَلَامِ الْعَرَبِ يَقُولُ: إِذَا قُرِئَ ذَلِكَ كَذَلِكَ، فَمَعْنَاهُ: حَرِيصٌ عَلَى أَنْ لَا أَقُولَ، أَوْ فَحَقَّ أَنْ لَا أَقُولَ. وَقَرَأَ ذَلِكَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ: " حَقِيقٌ عَلَيَّ أَلَّا أَقُولَ"، بِمَعْنَى: وَاجِبٌ عَلَيَّ أَنْ لَا أَقُولَ، وَحَقَّ عَلَيَّ أَنْ لَا أَقُولَ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَالصَّوَابُ مِنَ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ أَنَّهُمَا قِرَاءَتَانِ مَشْهُورَتَانِ مُتَقَارِبَتَا الْمَعْنَى، قَدْ قَرَأَ بِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا أَئِمَّةٌ مَنَ الْقَرَأَةِ، فَبِأَيَّتِهِمَا قَرَأَ الْقَارِئُ فَمُصِيبٌ فِي قِرَاءَتِهِ الصَّوَابَ. وَقَوْلُهُ: " {قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} "، يَقُولُ: قَالَ مُوسَى لِفِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ: قَدْ جِئْتُكُمْ بِبُرْهَانٍ مِنْ رَبِّكُمْ، يَشْهَدُ، أَيُّهَا الْقَوْمُ، عَلَى صِحَّةِ مَا أَقُولُ، وَصِدْقِ مَا أَذْكُرُ لَكُمْ مِنْ إِرْسَالِ اللَّهِ إِيَّايَ إِلَيْكُمْ رَسُولًا فَأَرْسِلْ يَا فِرْعَوْنُ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ. فَقَالَ لَهُ فِرْعَوْنُ: " {إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ} "، يَقُولُ: بِحُجَّةٍ وَعَلَامَةٍ شَاهِدَةٍ عَلَى صِدْقِ مَا تَقُولُ " {فَأْتِ بِهَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} ".
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَقُولُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ " {فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ} "، يَعْنِي حَيَّةً. "مُبِينٌ" يَقُولُ: تَتَبَيَّنُ لِمَنْ يَرَاهَا أَنَّهَا حَيَّةٌ. وَبِمَا قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى قَالَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ: " {فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ} " قَالَ: تَحَوَّلَتْ حَيَّةً عَظِيمَةً. وَقَالَ غَيْرُهُ: مِثْلَ الْمَدِينَةِ. حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ، حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ قَوْلَهُ: " {فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ} "، يَقُولُ: فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ كَادَ يَتَسَوَّرُهُ يَعْنِي: كَادَ يَثِبُ عَلَيْهِ. حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ هَارُونَ قَالَ، حَدَّثَنَا عَمْرٌو قَالَ، حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: " {فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ} "، "وَالثُّعْبَانُ": الذَّكَرُ مِنَ الْحَيَّاتِ، فَاتِحَةً فَاهَا، وَاضِعَةً لَحْيَهَا الْأَسْفَلَ فِي الْأَرْضِ، وَالْأَعْلَى عَلَى سُورِ الْقَصْرِ، ثُمَّ تَوَجَّهَتْ نَحْو فِرْعَوْنَ لِتَأْخُذَهُ، فَلَمَّا رَأْهَا ذُعِرَ مِنْهَا، وَوَثَبَ فَأَحْدَثَ، وَلَمْ يَكُنْ يُحْدِثُ قَبْلَ ذَلِكَ، وَصَاحَ: يَا مُوسَى، خُذْهَا وَأَنَا مُؤْمِنٌ بِكَ، وَأُرْسِلُ مَعَكَ بَنَى إِسْرَائِيلَ ! فَأَخَذَهَا مُوسَى فَعَادَتْ عَصً. حَدَّثَنِي عَبْدُ الْكَرِيمِ بْنُ الْهَيْثَمِ قَالَ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ بَشَّارٍ قَالَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو سَعْدٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: " {فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ} " قَالَ: أَلْقَى الْعَصَا فَصَارَتْ حَيَّةً، فَوَضَعَتْ فُقْمًا لَهَا أَسْفَلَ الْقُبَّةِ، وَفُقْمًا لَهَا أَعْلَى الْقُبَّةِ قَالَ عَبْدُ الْكَرِيمِ، قَالَ إِبْرَاهِيمُ: وَأَشَارَ سُفْيَانُ بِأُصْبُعِهِ الْإِبْهَامِ وَالسَّبَّابَةِ هَكَذَا: شِبْهُ الطَّاقِ فَلَمَّا أَرَادَتْ أَنْ تَأْخُذَهُ، قَالَ فِرْعَوْنُ: يَا مُوسَى خُذْهَا! فَأَخَذَهَا مُوسَى بِيَدِهِ، فَعَادَتْ عَصًا كَمَا كَانَتْ أَوَّلَ مَرَّةٍ. حَدَّثَنَا الْعَبَّاسُ بْنُ الْوَلِيدِ قَالَ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ قَالَ، أَخْبَرْنَا الْأَصْبَغُ بْنُ زَيْدٍ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ أَبِي أَيُّوبَ قَالَ، حَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: أَلْقَى عَصَاهُ فَتَحَوَّلَتْ حَيَّةً عَظِيمَةً فَاغِرَةً فَاهَا، مُسْرِعَةً إِلَى فِرْعَوْنَ، فِلْمًا رَأَى فِرْعَوْنُ أَنَّهَا قَاصِدَةٌ إِلَيْهِ، اقْتَحَمَ عَنْ سَرِيرِهِ، فَاسْتَغَاثَ بِمُوسَى أَنْ يَكُفَهَا عَنْهُ، فَفَعَلَ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ قَالَ، حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلَهُ: " {ثُعْبَانٌ مُبِينٌ} " قَالَ: الْحَيَّةُ الذَّكَرُ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ قَالَ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ الْكَرِيمِ قَالَ، حَدَّثَنِي عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ مَعْقِلٍ: أَنَّهُ سَمِعَ وَهْبَ بْنَ مُنَبِّهٍ يَقُولُ: لِمَا دَخَلَ مُوسَى عَلَى فِرْعَوْنَ، قَالَ لَهُ فِرْعَوْنُ: أَعْرِفُكَ؟ قَالَ: نَعَمَ! قَالَ: {أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا}؟ [سُورَةُ الشُّعَرَاءِ: 18]. قَالَ: فَرَدَّ إِلَيْهِ مُوسَى الَّذِي رَدَّ، فَقَالَ فِرْعَوْنُ: خُذُوهُ! فَبَادَرَهُ مُوسَى فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ، فَحَمَلَتْ عَلَى النَّاسِ فَانْهَزَمُوا، فَمَاتَ مِنْهُمْ خَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ أَلْفًا، قَتَلَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَقَامَ فِرْعَوْنُ مُنْهَزِمًا حَتَّى دَخَلَ الْبَيْتَ. حَدَّثَنِي الْحَارِثُ قَالَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو سَعْدٍ قَالَ، سَمِعَتُ مُجَاهِدًا يَقُولُ فِي قَوْلِهِ: {فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى}، [سُورَةُ طه: 20]، قَالَ: مَا بَيْنَ لَحْيَيْهَا أَرْبَعُونَ ذِرَاعً. حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ، حَدَّثَنَا عَبَدَةُ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنْ جُوَيْبِرٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ: " {فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ} "، قَالَ: الْحَيَّةُ الذَّكَرُ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَأَمَّا قَوْلُهُ: " {وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ} "، فَإِنَّهُ يَقُولُ: وَأَخْرَجَ يَدَهُ، فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ تَلُوحُ لِمَنْ نَظَرَ إِلَيْهَا مِنَ النَّاسِ. وَكَانَ مُوسَى، فِيمَا ذَكَرَ لَنَا، آدَمَ، فَجَعَلَ اللَّهُ تَحَوُّلَ يَدِهِ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ بَرَصٍ، لَهُ آيَةً، وَعَلَى صِدْقِ قَوْلِهِ: " {إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِ الْعَالَمِينَ} "، حُجَّةً. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا الْعَبَّاسُ قَالَ، أَخْبَرْنَا يَزِيدُ قَالَ، حَدَّثَنَا الْأَصْبَغُ بْنُ زَيْدٍ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ أَبِي أَيُّوبَ، قَالَ: حَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ، أَخْرَجَ يَدَهُ مِنْ جَيْبِهِ فَرَآهَا بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ يَعْنِي: مِنْ غَيْرِ بَرَصٍ ثُمَّ أَعَادَهَا إِلَى كُمِّهِ، فَعَادَتْ إِلَى لَوْنِهَا الْأَوَّلِ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ قَالَ، حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبَى طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلَهُ: " {بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ} "، يَقُولُ: مِنْ غَيْرِ بَرَصٍ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ، حَدَّثَنَا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، فِي قَوْلِ اللَّهِ: " {وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ} "، قَالَ: نَـزَعَ يَدَهُ مِنْ جَيْبِهِ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ بَرَصٍ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ قَالَ، حَدَّثَنَا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، مِثْلَهُ. حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ هَارُونَ قَالَ، حَدَّثَنَا عَمْرٌو قَالَ، حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: " {وَنَزَعَ يَدَهُ} "، أَخْرَجَهَا مِنْ جَيْبِهِ " {فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ} ". حَدَّثَنِي الْحَارِثُ قَالَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو سَعْدٍ قَالَ، سَمِعَتُ مُجَاهِدًا يَقُولُ فِي قَوْلِهِ: " {وَنَزَعَ يَدَهُ} " قَالَ: نـَزَعَ يَدَهُ مِنْ جَيْبِهِ " {فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ} "، وَكَانَ مُوسَى رِجْلًا آدَمَ، فَأَخْرَجَ يَدَهُ، فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ، أَشَدُّ بَيَاضًا مِنَ اللَّبَنِ " {مِنْ غَيْرِ سُوءٍ} "، قَالَ: مِنْ غَيْرِ بَرَصٍ، آيَةً لِفِرْعَوْنَ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: قَالَتِ الْجَمَاعَةُ مِنْ رِجَالِ قَوْمِ فِرْعَوْنَ وَالْأَشْرَافِ مِنْهُمْ "إِنَّ هَذَا"، يَعْنُونَ مُوسَى صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ "لِسَاحِرٌ عَلِيمٌ"، يُعَنْوِنُ: أَنَّهُ يَأْخُذُ بِأَعْيُنِ النَّاسِ بِخِدَاعِهِ إِيَّاهُمْ، حَتَّى يُخَيَّلَ إِلَيْهِمُ الْعَصَا حَيَّةً، وَالْآدَمُ أَبْيَضَ، وَالشَّيْءُ بِخِلَافِ مَا هُوَ بِهِ. وَمِنْهُ قِيلَ: "سَحَرَ الْمَطَرُ الْأَرْضَ"، إِذَا جَادَّهَا، فَقَطَعَ نَبَاتَهَا مِنْ أُصُولِهِ، وَقَلَبَ الْأَرْضَ ظَهْرًا لِبَطْنٍ، فَهُوَ يَسْحَرُهَا سَحْرًا"، و"الْأَرْضُ مَسْحُورَةٌ"، إِذَا أَصَابَهَا ذَلِكَ. فَشَبَّهَ "سِحْرُ السَّاحِرِ" بِذَلِكَ، لِتَخْيِيلِهِ إِلَى مَنْ سَحَرَهُ أَنَّهُ يَرَى الشَّيْءَ بِخِلَافِ مَا هُوَ بِهِ، وَمِنْهُ قَوْلُ ذِي الرُّمَّةِ فِي صِفَةِ السَّرَابِ. وَسَـاحِرَةِ العُيُـونِ مِـنَ الْمَـوَامِي *** تَـرقَّصُ فِي نَوَاشِـرِهَا الْأُرُومُ وَقَوْلُهُ (عَلِيمٌ) يَقُولُ: سَاحِرٌ عَلِيمٌ بِالسِّحْرِ " {يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ} "أَرْضِ مِصْرَ، مَعْشَرَ الْقِبْطِ السَّحَرَةِ وَقَالَ فِرْعَوْنُ لِلْمَلَأِ " {فَمَاذَا تَأْمُرُونَ}" يَقُولُ: فَأَيُّ شَيْءٍ تَأْمُرُونَ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْرِهِ؟ بِأَيِّ شَيْءٍ تُشِيرُونَ فِيهِ؟ وَقِيلَ: " {فَمَاذَا تَأْمُرُونَ} "، وَالْخَبَرُ بِذَلِكَ عَنْ فِرْعَوْنَ، وَلَمْ يُذْكَرْ فِرْعَوْنُ، وَقَلَّمَا يَجِيءُ مِثْلَ ذَلِكَ فِي الْكَلَامِ، وَذَلِكَ نَظِيرَ قَوْلِهِ: {قَالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ}، [يُوسُفَ: 52]. فَقِيلَ: " {ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ} "، مِنْ قَوْلِ يُوسُفَ، وَلَمْ يُذْكَرْ يُوسُفُ، وَمِنْ ذَلِكَ أَنْ يَقُولَ: "قُلْتُ لِزَيْدٍ قُمْ، فَإِنَّى قَائِمٌ"، وَهُوَ يُرِيدُ: " فَقَالَ زَيْدٌ: إِنِّي قَائِمٌ".
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ. قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ لِفِرْعَوْنَ: أَرْجِئْهُ: أَيْ أَخِّرْهُ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَعْنَاهُ: احْبِسْ. وَالْإِرْجَاءُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ التَّأْخِيرُ. يُقَالُ مِنْهُ: "أَرَجَيْتُ هَذَا الْأَمْرَ"، و"أَرْجَأَتْهُ"، إِذَا أَخَّرَتْهُ. وَمِنْهُ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ}، [سُورَةُ الْأَحْزَابِ: 51] تُؤَخِّرُ، فَالْهَمْزُ مِنْ كَلَامِ بَعْضِ قَبَائِلَ قَيْسٍ، يَقُولُونَ: "أَرْجَأَتْ هَذَا الْأَمْرَ"، وَتَرْكُ الْهَمْزُ مِنْ لُغَةِ تَمِيمٍ وَأَسَدٍ، يَقُولُونَ: "أَرُجِيَتْهُ". وَاخْتَلَفَتِ الْقَرَأَةُ فِي قِرَاءَةِ ذَلِكَ. فَقَرَأَتْهُ عَامَّةُ قَرَأَةِ الْمَدِينَةِ وَبَعْضُ الْعِرَاقِيِّينَ: "أَرْجِهِ" بِغَيْرِ الْهَمْزِ وَبِجَرِّ الْهَاءِ. وَقَرَأَهُ بَعْضُ قَرَأَةِ الْكُوفِيِّينَ: "أَرْجِهْ" بِتَرْكِ الْهَمْزِ وَتَسْكِينِ "الْهَاءِ"، عَلَى لُغَةِ مَنْ يَقِفُ عَلَى الْهَاءِ فِي الْمَكْنِيِّ فِي الْوَصْلِ، إِذَا تَحَرَّكَ مَا قَبْلَهَا، كَمَا قَالَ الرَّاجِزُ: أَنْحَـى عَـلَيَّ الدَّهْـرُ رِجْـلًا وَيَـدَا *** يُقْسِـمُ لَا يُصْلِـحُ إِلَّا أَفْسَـدَا فَيُصْلِحُ الْيَوْمَ وَيُفْسِدُهُ غَدَا وَقَدْ يَفْعَلُونَ مِثْلَ هَذَا بَهَاءِ التَّأْنِيثِ، فَيَقُولُونَ: "هَذِهِ طَلْحَهْ قَدْ أَقْبَلَتْ"، كَمَا قَالَ الرَّاجِزُ: لَمَّـا رَأَى أَنْ لَا دَعَـهْ وَلَا شِـبَعْ *** مَـالَ إلَـى أَرْطَـأةِ حِـقْفٍ فَاضْطَجَعْ وَقُرَاهُ بَعْضُ الْبَصْرِيِّينَ: "أَرْجِئْهُ" بِالْهَمْزِ وَضَمَّ "الْهَاءِ"، عَلَى لُغَةِ مَنْ ذَكَرْتُ مِنْ قَيْسٍ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَأَوْلَى الْقِرَاءَاتِ فِي ذَلِكَ بِالصَّوَابِ، أَشْهَرُهَا وَأَفْصَحُهَا فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، وَذَلِكَ تَرْكُ الْهَمْزِ وَجَرُّ "الْهَاءِ"، وَإِنْ كَانَتِ الْأُخْرَى جَائِزَةً، غَيْرَ أَنَّ الَّذِي اخْتَرْنَا أَفْصَحَ اللُّغَاتِ وَأَكْثَرَهَا عَلَى أَلْسُنِ فُصَحَاءَ الْعَرَبِ. وَاخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: "أَرُجُّهُ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَعْنَاهُ: أَخَّرَهُ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ: حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، قَالَ: قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: أَخْبَرَنِي عَطَاءٌ الْخُرَاسَانِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلِهِ: " {أَرْجِهْ وَأَخَاهُ} " قَالَ: أَخِّرْهُ. وَقَالَ آخَرُونَ. مَعْنَاهُ احْبِسْهُ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ قَالَ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ، حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ قَوْلَهُ: " {أَرْجِهْ وَأَخَاهُ} "، أَيْ: احْبِسْهُ وَأَخَاهُ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: " {وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ} " يَقُولُ: مَنْ يَحْشُرُ السَّحَرَةَ فَيَجْمَعُهُمْ إِلَيْكَ. وَقِيلَ: هُمُ الشُّرَطُ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي عَبَّاسُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ قَالَ، حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ، حَدَّثَنَا الْحُكْمُ بْنُ ظَهِيرٍ، عَنِ السُّدِّيِّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: " {وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ} "، قَالَ: الشُّرَطُ. حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ، حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُهَاجِرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ مُجَاهِدٍ: " {وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ} "، قَالَ: الشُّرَطُ. قَالَ: حَدَّثَنَا حُمَيْدٌ، عَنْ قَيْسٍ، عَنِ السُّدِّيِّ: " {وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ} "، قَالَ: الشُّرَطُ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيمٍ قَالَ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُهَاجِرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فِي قَوْلِهِ: " {فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ} "، قَالَ: الشُّرَطُ. حَدَّثَنِي عَبْدُ الْكَرِيمِ بْنُ الْهَيْثَمِ قَالَ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ بَشَّارٍ قَالَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو سَعْدٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: " {وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ} "، قَالَ: الشُّرَطُ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {يَأْتُوكَ بِكُلِ سَاحِرٍ عَلِيمٍ وَجَاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قَالُوا إِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَهَذَا خَبَّرٌ مِنَ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ عَنْ مَشُورَةِ الْمَلَأِ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ عَلَى فِرْعَوْنَ، أَنْ يُرْسِلَ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ يَحْشُرُونَ كُلَّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ. وَفِي الْكَلَامِ مَحْذُوفٌ، اكْتَفَى بِدَلَالَةِ الظَّاهِرِ مِنْ إِظْهَارِهِ، وَهُوَ: فَأَرْسَلَ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ، يَحْشُرُونَ السَّحَرَةَ. " {وَجَاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قَالُوا إِنَّ لَنَا لَأَجْرًا} " يَقُولُ: إِنَّ لَنَا لَثَوَابًا عَلَى غَلَبَتِنَا مُوسَى عِنْدَكَ "إِنْ كُنَّا"، يَا فِرْعَوْنُ، "نَحْنُ الْغَالِبِينَ". وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا الْعَبَّاسُ قَالَ، أَخْبَرْنَا يَزِيدُ قَالَ، أَخْبَرْنَا الْأَصْبَغُ بْنُ زَيْدٍ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ أَبِي أَيُّوبَ قَالَ، حَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: " {وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ} "، فَحَشْرَ لَهُ كُلَّ سَاحِرٍ مُتَعَالِمٍ، فَلَمَّا أَتَوْا فِرْعَوْنَ قَالُوا: بِمَ يَعْمَلُ هَذَا السَّاحِرُ؟ قَالُوا: يَعْمَلُ بِالْحَيَّاتِ. قَالُوا: وَاللَّهِ مَا فِي الْأَرْضِ قَوْمٌ يَعْمَلُونَ بِالسَّحَرِ وَالْحَيَّاتِ وَالْحِبَالِ وَالْعِصِيِّ أَعْلَمُ مِنَّا، فَمَا أَجْرُنَا إِنْ غَلَبْنَا؟ فَقَالَ لَهُمْ: أَنْتُمْ قَرَابَتِي وَحَامَّتِي، وَأَنَا صَانِعٌ إِلَيْكُمْ كُلَّ شَيْءٍ أَحْبَبْتُمْ. حَدَّثَنِي عَبْدُ الْكَرِيمِ بْنُ الْهَيْثَمِ قَالَ: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ بَشَّارٍ قَالَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو سَعْدٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ فِرْعَوْنُ: لَا نُغَالِبُهُ يَعْنِي مُوسَى إِلَّا بِمَنْ هُوَ مِنْهُ، فَأَعَدَّ عُلَمَاءَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَبَعَثَ بِهِمْ إِلَى قَرْيَةٍ بِمِصْرَ يُقَالُ لَهَا: " الْفَرَمَا "، يُعَلِّمُونَهُمُ السِّحْرَ كَمَا يُعَلَّمُ الصِّبْيَانُ الْكِتَابَ فِي الْكُتَّابِ. قَالَ: فَعَلِّمُوهُمْ سِحْرًا كَثِيرًا. قَالَ: وَوَاعَدَ مُوسَى فِرْعَوْنَ مَوْعِدًا، فَلَمَّا كَانَ فِي ذَلِكَ الْمَوْعِدِ، بَعَثَ فِرْعَوْنُ، فَجَاءَ بِهِمْ وَجَاءَ بِمُعَلِّمِهِمْ مَعَهُمْ، فَقَالَ لَهُ: مَاذَا صَنَعْتَ؟ قَالَ: قَدْ عَلَّمْتُهُمْ مِنَ السِّحْرِ سِحْرًا لَا يُطِيقُهُ سِحْرُ أَهْلِ الْأَرْضِ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ أَمْرًا مِنَ السَّمَاءِ، فَإِنَّهُ لَا طَاقَةَ لَهُمْ بِهِ، فَأَمَّا سِحْرُ أَهْلِ الْأَرْضِ، فَإِنَّهُ لَنْ يَغْلِبَهُمْ. فَلَمَّا جَاءَتِ السَّحَرَةُ قَالُوا لِفِرْعَوْنَ: {أَئِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ} {قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذًا لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ}. حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ هَارُونَ قَالَ، حَدَّثَنَا عَمْرٌو قَالَ، حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: {فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ} "، فَحَشَرُوا عَلَيْهِ السَّحَرَةَ، "فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قَالُوا إِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ" يَقُولُ: عَطِيَّةٌ تُعْطِينَا " {إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ} ". حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ، حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ: " {أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ يَأْتُوكَ بِكُلِ سَاحِرٍ عَلِيمٍ} "، أَيْ كَاثَرَهُ بِالسَّحَرَةِ، لَعَلَّكَ أَنْ تَجِدَ فِي السَّحَرَةِ مَنْ يَأْتِي بِمِثْلِ مَا جَاءَ بِهِ. وَقَدْ كَانَ مُوسَى وَهَارُونُ خُرْجًا مِنْ عِنْدِهِ حِينَ أَرَاهُمْ مِنْ سُلْطَانِ اللَّهِ مَا أَرَاهُمْ. وَبَعَثَ فِرْعَوْنُ فِي مَمْلَكَتِهِ، فَلَمْ يَتْرُكْ فِي سُلْطَانِهِ سَاحِرًا إِلَّا أُتِيَ بِهِ. فَذُكِرَ لِي، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، أَنَّهُ جَمَعَ لَهُ خَمْسَةَ عَشَرَ أَلْفِ سَاحِرٍ، فَلَمَّا اجْتَمَعُوا إِلَيْهِ، أَمْرَهُمْ أَمَرَهُ، وَقَالَ لَهُمْ: قَدْ جَاءَنَا سَاحِرٌ مَا رَأَيْنَا مَثَلَهُ قَطُّ، وَإِنَّكُمْ إِنْ غَلَّبْتُمُوهُ أَكْرَمَتْكُمْ وَفَضَّلَتْكُمْ، وَقَرَّبَتْكُمْ عَلَى أَهْلِ مَمْلَكَتِي! قَالُوا: وَإِنَّ لَنَا ذَلِكَ إِنْ غَلَبْنَاهُ؟ قَالَ: نَعَمَ !. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ وَاضِحٍ قَالَ، حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ، عَنْ يَزِيدَ، عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ: السَّحَرَةُ كَانُوا سَبْعِينَ قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: أَحْسَبُهُ أَنَّهُ قَالَ: أَلْفًا. قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ وَاضِحٍ قَالَ، حَدَّثَنَا موسى بْنُ عُبَيْدَةَ، عَنِ ابْنِ الْمُنْذِرِ، قَالَ: كَانَ السَّحَرَةُ ثَمَانِينَ أَلْفًا. حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ رَفِيعٍ، عَنْ خَيْثَمَةَ، عَنْ أَبِي سَوْدَةَ، عَنْ كَعْبٍ قَالَ: كَانَ سَحَرَةُ فِرْعَوْنَ اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَقُولُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: قَالَ فِرْعَوْنُ لِلسَّحَرَةِ، إِذْ قَالُوا لَهُ: إِنَّ لَنَا عِنْدَكَ ثَوَابًا إِنْ نَحْنُ غَلَبْنَا مُوسَى؟ قَالَ: نَعَمَ، لَكُمْ ذَلِكَ، وَإِنَّكُمْ لَمَمْنَ أُقَرِّبُهُ وَأُدْنِيهُ مِنِّي "قَالُوا يَا مُوسَى " يَقُولُ: قَالَتِ السَّحَرَةُ لِمُوسَى: يَا مُوسَى، اخْتَرْ أَنْ تُلْقِيَ عَصَاكَ، أَوْ نُلْقِيَ نَحْنُ عِصِيَّنَا. وَلِذَلِكَ أَدْخَلَتْ "أَنْ" مَعَ "إِمَّا" فِي الْكَلَامِ، لِأَنَّهَا فِي مَوْضِعِ أَمْرٍ بِالِاخْتِيَارِ. فَـ"أَنْ" إذًا فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ لِمَا وَصَفَتْ مِنَ الْمَعْنَى، لِأَنَّ مَعْنَى الْكَلَامِ: اخْتَرْ أَنْ تُلْقِيَ أَنْتَ، أَوْ نُلْقِي نَحْنُ، وَالْكَلَامُ مَعَ "إِمَّا" إِذَا كَانَ عَلَى وَجْهِ الْأَمْرِ، فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ فِيهِ "أَنْ"، كَقَوْلِكَ لِلرَّجُلِ: إِمَّا أَنْ تَمْضِيَ، وَإِمَّا أَنْ تَقْعُدَ"، بِمَعْنَى الْأَمْرِ: امْضِ أَوِ اقْعُدْ، فَإِذَا كَانَ عَلَى وَجْهِ الْخَبَرِ، لَمْ يَكُنْ فِيهِ "أَنْ" كَقَوْلِهِ: {وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ} [التَّوْبَةِ: 106]. وَهَذَا هُوَ الَّذِي يُسَمَّى "التَّخْيِيرُ" وَكَذَلِكَ كَلَّ مَا كَانَ عَلَى وَجْهِ الْخَبَرِ، و"إِمَّا" فِي جَمِيعِ ذَلِكَ مَكْسُورَةٌ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {قَالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: قَالَ مُوسَى لِلسَّحَرَةِ: (أَلْقُوا) مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ! فَأَلْقَتِ السَّحَرَةُ مَا مَعَهُمْ، فَلَمَّا أَلْقُوا ذَلِكَ " {سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ} "، خَيِّلُوا إِلَى أَعْيُنِ النَّاسِ بِمَا أَحْدَثُوا مِنَ التَّخْيِيلِ وَالْخُدَعِ أَنَّهَا تَسْعَى "وَاسْتَرْهَبُوهُمْ"، يَقُولُ: وَاسْتَرْهَبُوا النَّاسَ بِمَا سَحَرُوا فِي أَعْيُنِهِمْ، حَتَّى خَافُوا مِنَ الْعِصِيِّ وَالْحِبَالِ، ظَنًّا مِنْهُمْ أَنَّهَا حَيَّاتٌ "وَجَاؤُوا" كَمَا قَالَ اللَّهُ: " {بِسِحْرٍ عَظِيمٍ} "، بِتَخْيِيلٍ عَظِيمٍ كَبِيرٍ، مِنَ التَّخْيِيلِ وَالْخِدَاعِ. وَذَلِكَ كَالَّذِي:- حَدَّثَنَا مُوسَى بْنَ هَارُونَ قَالَ، حَدَّثَنَا عَمْرٌو قَالَ، حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ قَالَ: قَالَ لَهُمْ مُوسَى: أَلْقَوْا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ! فَأَلْقَوْا حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ! وَكَانُوا بِضْعَةً وَثَلَاثِينَ أَلْفَ رَجُلٍ، لَيْسَ مِنْهُمْ رَجُلٌ إِلَّا مَعَهُ حَبْلٌ وَعَصَا " {فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ} " يَقُولُ: فَرَّقُوهُمْ، فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى. حَدَّثَنِي عَبْدُ الْكَرِيمِ قَالَ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ بَشَّارٍ قَالَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو سَعْدٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: أَلْقَوْا حِبَالًا غِلَاظًا طِوَالًا وَخَشَبًا طِوَالًا قَالَ: فَأَقْبَلَتْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ، حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ قَالَ: صُفَّ خَمْسَةَ عَشَرَ أَلْفَ سَاحِرٍ، مَعَ كُلِّ سَاحِرٍ حِبَالُهُ وَعِصِيُّهُ. وَخَرَجَ مُوسَى مَعَهُ أَخُوهُ يَتَّكِئُ عَلَى عَصَاهُ حَتَّى أَتَى الْجَمْعَ، وَفِرْعَوْنُ فِي مَجْلِسِهِ مَعَ أَشْرَافِ مَمْلَكَتِهِ، ثُمَّ قَالَتِ السَّحَرَةُ: {يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى قَالَ بَلِ الْقُوا فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى} [طه: 66]. فَكَانَ أَوَّلُ مَا اخْتَطَفُوا بِسِحْرِهِمْ بَصَّرَ مُوسَى وَبَصَرَ فِرْعَوْنَ، ثُمَّ أَبْصَارَ النَّاسِ بَعْدُ. ثُمَّ أَلْقَى كُلُّ رَجُلٍ مِنْهُمْ مَا فِي يَدِهِ مِنَ العِصِىِّ وَالْحِبَالِ، فَإِذَا هِيَ حَيَّاتٌ كَأَمْثَالِ الْجِبَالِ، قَدْ مَلَأَتِ الْوَادِي يَرْكَبُ بَعْضُهَا بَعْضًا {فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى}، [طه: 67]، وَقَالَ: وَاللَّهِ إِنْ كَانَتْ لَعِصِيًّا فِي أَيْدِيهِمْ، وَلَقَدْ عَادَتْ حَيَّاتٍ! وَمَا تَعْدُو عَصَايَ هَذِهِ! أَوْ كَمَا حَدَّثَ نَفْسَهُ. حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ، حَدَّثَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ، عَنْ هُشَامٍ الدَّسْتَوَائِيِّ قَالَ، حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ بْنُ أَبِي بِزَّةَ قَالَ: جَمَعَ فِرْعَوْنُ سَبْعِينَ أَلْفَ سَاحِرٍ، وَأَلْقَوْا سَبْعِينَ أَلْفَ حَبْلٍ، وَسَبْعِينَ أَلْفَ عَصًا، حَتَّى جَعَلَ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ، فَأَلْقَاهَا فَإِذًّا هِيَ تَلْقُمُ وَتَبْتَلِعُ مَا يَسْحَرُونَ كَذِبًا وَبَاطِلًا. يُقَالُ مِنْهُ: لَقِفْتُ الشَّيْءَ فَأَنَا أَلْقَفُهُ لَقْفًا وَلَقَفَانًا. وَذَلِكَ كَالَّذِي:- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى قَالَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ: " {وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ} "، فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ، فَتَحَوَّلَتْ حَيَّةً، فَأَكَلَتْ سِحْرَهُمْ كُلَّهُ. حَدَّثَنَا عَبْدُ الْكَرِيمِ بْنُ الْهَيْثَمِ قَالَ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ بَشَّارٍ قَالَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو سَعْدٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَلَقَّفُ مَا يَأْفِكُونَ، لَا تَمُرُّ بِشَيْءٍ مِنْ حِبَالِهِمْ وخُشْبِهِمُ الَّتِي أَلْقَوْهَا إِلَّا الْتَقَمَتْهُ، فَعَرَفَتِ السَّحَرَةُ أَنَّ هَذَا أَمْرٌ مِنَ السَّمَاءِ، وَلَيْسَ هَذَا بِسِحْرٍ، فَخَرُّوا سُجَّدًا وَقَالُوا: {آمَنَّا بِرَبِ الْعَالَمِينَ رَبِ مُوسَى وَهَارُونَ}. حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ هَارُونَ قَالَ، حَدَّثَنَا عَمْرٌو قَالَ، حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ قَالَ: أَوْحَى اللَّهُ إِلَى مُوسَى: لَا تَخَفْ، وَأَلْقَ مَا فِي يَمِينِكَ تَلَقَّفُ مَا يَأْفِكُونَ. فَأَلْقَى عَصَاهُ، فَأَكَلَتْ كُلَّ حَيَّةٍ لَهُمْ. فَلَمَّا رَأَوْا ذَلِكَ سَجَدُوا، وَقَالُوا: {آمَنَّا بِرَبِ الْعَالَمِينَ} {رَبِ مُوسَى وَهَارُونَ}. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ، حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ قَالَ: أَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ: أَنْ أَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ! فَأَلْقَى عَصَاهُ مِنْ يَدِهِ، فَاسْتَعْرَضَتْ مَا أَلْقَوْا مِنْ حِبَالِهِمْ وَعِصِيِّهِمْ، وَهِيَ حَيَّاتٌ فِي عَيْنِ فِرْعَوْنَ وَأَعْيُنِ النَّاسِ تَسْعَى، فَجَعَلَتْ تَلَقَّفُهَا، تَبْتَلِعُهَا، حَيَّةً حَيَّةً، حَتَّى مَا يُرَى بِالْوَادِي قَلِيلٌ وَلَا كَثِيرٌ مِمَّا أَلْقَوْهُ. ثُمَّ أَخَذَهَا مُوسَى، فَإِذَا هى عَصَاهُ فِي يَدِهِ كَمَا كَانَتْ، وَوَقَعَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا قَالُوا: " {آمَنَّا بِرَبِ الْعَالَمِينَ رَبِ مُوسَى وَهَارُونَ}. لَوْ كَانَ هَذَا سِحْرًا مَا غُلِبْنَا"!. حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ، حَدَّثَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ، عَنْ هُشَامٍ الدَّسْتَوَائِيِّ قَالَ، حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ بْنُ أَبِي بِزَّةَ قَالَ: أَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ: أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ، فَأَلْقَى عَصَاهُ، فَاذًّا هِيَ ثُعْبَانٌ فَاغِرٌ فَاهُ، فَابْتَلَعَ حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ. فَأُلْقِي السَّحَرَةُ عِنْدَ ذَلِكَ سُجَّدًا، فَمَا رَفَعُوا رُؤُوسَهُمْ حَتَّى رَأَوْا الْجَنَّةَ وَالنَّارَ وَثَوَابَ أَهْلِهِمَا. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ، حَدَّثَنَا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، فِي قَوْلِ اللَّهِ: "يَأْفِكُونَ" قَالَ: يَكْذِبُونَ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ، حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ، حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: " {فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ} "، قَالَ: يَكْذِبُونَ. حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُسْتَمِرِّ قَالَ، حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ عُمَرَ قَالَ، حَدَّثَنَا قُرَّةُ بْنُ خَالِدٍ السُّدُوسَيُّ، عَنِ الْحَسَنِ: " {تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ} "، قَالَ: حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ، تَسْتَرِطُهَا اسْتِرَاطًا.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: فَظَهَرَ الْحَقُّ وَتَبَيَّنَ لِمَنْ شَهِدَهُ وَحَضَرَهُ فِي أَمْرِ مُوسَى، وَأَنَّهُ لِلَّهِ رَسُولٌ يَدْعُو إِلَى الْحَقِّ " {وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} "، مِنْ إِفْكِ السِّحْرِ وَكَذِبِهِ وَمَخَايلِهِ. وَبِنَحْوِ مَا قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ، حَدَّثَنَا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: " {فَوَقَعَ الْحَقُّ} "، قَالَ: ظَهَرَ. حَدَّثَنِي الْحَارِثُ قَالَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ قَالَ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُهَاجِرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: " {فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} "، قَالَ: ظَهَرَ الْحَقُّ، وَذَهَبَ الْإِفْكُ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ، حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ، حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، فِي قَوْلِهِ: " {فَوَقَعَ الْحَقُّ} "، قَالَ: ظَهَرَ الْحَقُّ. حَدَّثَنَا الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ قَالَ، حَدَّثَنَا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: " {فَوَقَعَ الْحَقُّ} "، ظَهَرَ مُوسَى.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانْقَلَبُوا صَاغِرِينَ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: فَغَلَبَ مُوسَى فِرْعَوْنَ وَجُمُوعَهُ "هُنَالِكَ"، عِنْدَ ذَلِكَ " {وَانْقَلَبُوا صَاغِرِينَ} "، يَقُولُ: وَانْصَرَفُوا عَنْ مَوْطِنِهِمْ ذَلِكَ بِصِغَرٍ مَقْهُورِينَ. يُقَالُ مِنْهُ: "صَغُرَ الرَّجُلُ يُصْغَرُ صَغَرًا وصُغْرًا وَصَغَارًا.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ قَالُوا آمَنَّا بِرَبِ الْعَالَمِينَ رَبِ مُوسَى وَهَارُونَ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ عِنْدَمَا عَايَنُوا مِنْ عَظِيمِ قُدْرَةِ اللَّهِ، سَاقِطِينَ عَلَى وُجُوهِهِمْ سُجَّدًا لِرَبِّهِمْ، يَقُولُونَ: " {آمَنَّا بِرَبِ الْعَالَمِينَ} "، يَقُولُونَ: صَدَّقْنَا بِمَا جَاءَنَا بِهِ مُوسَى، وَأَنَّ الَّذِي عَلَيْنَا عِبَادَتُهُ، هُوَ الَّذِي يَمْلِكُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ وَجَمِيعَ الْأَشْيَاءِ، وَغَيْرَ ذَلِكَ، وَيُدَبِّرُ ذَلِكَ كُلَّهُ " {رَبِ مُوسَى وَهَارُونَ} "، لَا فِرْعَوْنَ، كَالَّذِي:- حَدَّثَنِي عَبْدُ الْكَرِيمِ قَالَ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ بَشَّارٍ قَالَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو سَعْدٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لِمَا رَأَتِ السَّحَرَةُ مَا رَأَتْ، عَرَفَتْ أَنَّ ذَلِكَ أَمُرٌّ مِنَ السَّمَاءِ وَلَيْسَ بِسِحْرٍ، فَخَرُّوا سُجَّدًا، وَقَالُوا: " {آمَنَّا بِرَبِ الْعَالَمِينَ رَبِ مُوسَى وَهَارُونَ} ".
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: قَالَ فِرْعَوْنُ لِلسَّحَرَةِ إِذْ آمَنُوا بِاللَّهِ يَعْنِي صَدَّقُوا رَسُولَهُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، لِمَا عَايَنُوا مِنْ عَظِيمِ قُدْرَةِ اللَّهِ وَسُلْطَانِهِ: "آمَنْتُمْ بِهِ"، يَقُولُ: أَصَدَّقْتُمْ بِمُوسَى وَأَقْرَرْتُمْ بِنُبُوَّتِهِ " {قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ} "، بِالْإِيمَانِ بِهِ "إِنَّ هَذَا"، يَقُولُ: تَصْدِيقُكُمْ إِيَّاهُ، وَإِقْرَارُكُمْ بِنُبُوَّتِهِ " {لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ} "، يَقُولُ لَخُدْعَةٍ خَدَعْتُمْ بِهَا مَنْ فِي مَدِينَتِنَا، لِتُخْرِجُوهُمْ مِنْهَا " {فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} "، مَا أَفْعَلُ بِكُمْ، وَمَا تَلْقَوْنَ مِنْ عِقَابِي إِيَّاكُمْ عَلَى صَنِيعِكُمْ هَذَا. وَكَانَ مَكْرُهُمْ ذَلِكَ فِيمَا:- حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ هَارُونَ قَالَ، حَدَّثَنَا عَمْرٌو قَالَ، حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ، فِي حَدِيثٍ ذَكَرَهُ، عَنْ أَبِي مَالِكٍ وَعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَعَنْ مَرَّةَ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَعَنْ نَاسٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْتَقَى مُوسَى وَأَمِيرَ السَّحَرَةِ، فَقَالَ لَهُ مُوسَى: أَرَأَيْتَكَ إِنْ غَلَبَتُكَ أَتُؤْمِنُ بِي، وَتَشْهَدُ أَنَّ مَا جِئْتُ بِهِ حَقٌّ؟ قَالَ السَّاحِرُ: لِآتِينَ غَدًا بِسِحْرٍ لَا يَغْلِبُهُ سِحْرٌ، فَوَاللَّهِ لَئِنْ غَلَبَتْنِي لِأُومِنَنَّ بِكَ، وَلِأَشْهَدَنَّ أَنَّكَ حَقٌّ! وَفِرْعَوْنُ يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ، فَهُوَ قَوْلُ فِرْعَوْنَ: " {إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ} "، إِذِ الْتَقَيْتُمَا لِتَتَظَاهَرَا فَتُخْرِجَا مِنْهَا أَهْلِهَ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ، مُخْبِرًا عَنْ قِيلِ فِرْعَوْنَ لِلسَّحَرَةِ إِذْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَصَدَقُوا رَسُولَهُ مُوسَى: " {لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ} "، وَذَلِكَ أَنْ يَقْطَعَ مِنْ أَحَدِهِمْ يَدَهُ الْيُمْنَى وَرِجْلَهُ الْيُسْرَى، أَوْ يَقْطَعُ يَدَهُ الْيُسْرَى وَرِجْلَهُ الْيُمْنَى، فَيُخَالِفُ بَيْنَ الْعُضْوَيْنِ فِي الْقَطْعِ، فَمُخَالَفَتُهُ فِي ذَلِكَ بَيْنَهُمَا هُوَ "الْقَطْعُ مِنْ خِلَافٍ". وَيُقَالُ: إِنَّ أَوَّلَ مَنْ سَنَّ هَذَا الْقَطْعُ فِرْعَوْنَ " {ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ} "، وَإِنَّمَا قَالَ هَذَا فِرْعَوْنَ، لِمَا رَأَى مِنْ خِذْلَانِ اللَّهِ إِيَّاهُ، وَغَلَبَةِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَقَهْرِهِ لَهُ. حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُدَ الْحَفْرِيُّ وَحَبَوَيْهِ الرَّازِّيُّ، عَنْ يَعْقُوبَ الْقُمِّيُّ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي الْمُغِيرَةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: " {لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ} "، قَالَ: أَوَّلُ مَنْ صَلَّبَ، وَأَوَّلُ مَنْ قَطَعَ الْأَيْدِيَ وَالْأَرْجُلَ مِنْ خِلَافٍ، فِرْعَوْنُ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {قَالُوا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ وَمَا تَنْقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءَتْنَا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: قَالَ السَّحَرَةُ مُجِيبَةً لِفِرْعَوْنَ، إِذْ تَوَعَّدَهُمْ بِقَطْعِ الْأَيْدِي وَالْأَرْجُلِ مِنْ خِلَافٍ، وَالصَّلْبِ: " {إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ} " يَعْنِي بِالِانْقِلَابِ إِلَى اللَّهِ، الرُّجُوعِ إِلَيْهِ وَالْمَصِيرِ وَقَوْلُهُ: " {وَمَا تَنْقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا} "، يَقُولُ: مَا تُنْكِرُ مِنَّا، يَا فِرْعَوْنُ، وَمَا تَجِدُ عَلَيْنَا، إِلَّا مِنْ أَجْلِ أَنْ آمَنَّا، أَيْ صَدَّقْنَا " {بِآيَاتِ رَبِّنَا} "، يَقُولُ: بِحُجَجِ رَبِّنَا وَأَعْلَامِهِ وَأَدِلَّتِهِ الَّتِي لَا يَقْدِرُ عَلَى مَثَلِهَا أَنْتَ وَلَا أَحَدٌ، سِوَى اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَلِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ. ثُمَّ فَزِعُوا إِلَى اللَّهِ بِمَسْأَلَتِهِ الصَّبْرَ عَلَى عَذَابِ فِرْعَوْنَ، وَقَبْضَ أَرْوَاحَهُمْ عَلَى الْإِسْلَامِ فَقَالُوا: {رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا}، يَعْنُونَ بِقَوْلِهِمْ: "أَفْرِغْ"، أَنـْزِلْ عَلَيْنَا حَبْسًا يَحْبِسُنَا عَنِ الْكُفْرِ بِكَ، عِنْدَ تَعْذِيبِ فِرْعَوْنَ إِيَّانَا {وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ}، يَقُولُ: وَاقْبِضْنَا إِلَيْكَ عَلَى الْإِسْلَامِ دِينِ خَلِيلِكَ إِبْرَاهِيمَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لَا عَلَى الشِّرْكِ بِكَ. فَحَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ هَارُونَ قَالَ، حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ حَمَّادٍ قَالَ، حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: {لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ}، فَقَتَلَهُمْ وَصَلَبَهُمْ، كَمَا قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ، حِينَ قَالُوا: {رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ}. قَالَ: كَانُوا فِي أَوَّلِ النَّهَارِ سَحَرَةً، وَفَى آخِرِ النَّهَارِ شُهَدَاءَ. حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ، حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ إِسْرَائِيلَ، عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ رَفِيعٍ، عَنْ عَبِيدِ بْنِ عُمَيْرٍ قَالَ: كَانَتِ السَّحَرَةُ أَوَّلَ النَّهَارِ سَحَرَةً، وَآخِرُ النَّهَارِ شُهَدَاءَ. حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ قَالَ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ، حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ قَوْلَهُ: {وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ}، قَالَ: ذَكَرَ لَنَا أَنَّهُمْ كَانُوا فِي أَوَّلِ النَّهَارِ سَحَرَةً، وَآخِرِهِ شُهَدَاءَ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ، حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ، حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: {رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ}، قَالَ: كَانُوا أَوَّلَ النَّهَارِ سَحَرَةً، وَآخِرَهُ شُهَدَاءَ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَقَالَتْ جَمَاعَةُ رِجَالٍ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ لِفِرْعَوْنَ أَتَدَعُّ مُوسَى وَقَوْمَهُ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ " {لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ} "، يَقُولُ: كَيْ يُفْسِدُوا خَدَمَكَ وَعَبِيدَكَ عَلَيْكَ فِي أَرْضِكَ مِنْ مِصْرَ {وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ}، يَقُولُ: "وَيَذَرَكَ"، وَيَدَعُ خِدْمَتَكَ مُوسَى وَعِبَادَتَكَ وَعِبَادَةَ آلِهَتِكَ. وَفِي قَوْلِهِ: {وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ}، وَجْهَانِ مِنَ التَّأْوِيلِ. أَحَدُهُمَا: أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ، وَقَدْ تَرَكَكَ وَتَرَكَ عِبَادَتَكَ وَعِبَادَةَ آلِهَتِكَ وَإِذَا وُجِّهَ الْكَلَامُ إِلَى هَذَا الْوَجْهِ مِنَ التَّأْوِيلِ، كَانَ النَّصْبُ فِي قَوْلِهِ: (وَيَذَرَكَ)، عَلَى الصَّرْفِ، لَا عَلَى الْعَطْفِ بِهِ عَلَى قَوْلِهِ: "لِيُفْسِدُوا". وَالثَّانِي: أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ، وَلِيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ كَالتَّوْبِيخِ مِنْهُمْ لِفِرْعَوْنَ عَلَى تَرْكِ مُوسَى لِيَفْعَلَ هَذَيْنَ الْفِعْلَيْنِ. وَإِذَا وُجِّهَ الْكَلَامُ إِلَى هَذَا الْوَجْهِ، كَانَ نَصْبُ: (وَيَذَرَكَ) عَلَى الْعَطْفِ عَلَى (لِيُفْسِدُوا). قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَالْوَجْهُ الْأَوَّلُ أَوْلَى الْوَجْهَيْنِ بِالصَّوَابِ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ نَصْبُ (وَيَذَرَكَ) عَلَى الصَّرْفِ، لِأَنَّ التَّأْوِيلَ مِنْ أَهْلِ التَّأْوِيلِ بِهِ جَاءَ. وَبَعْدُ، فَإِنَّ فِي قِرَاءَةِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ الَّذِي:- حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُوسُفَ قَالَ، حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ، حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ عَنْ هَارُونَ قَالَ، فِي حَرْفِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ: ("وَقَدْ تَرَكُوكَ أَنْ يَعْبُدُوكَ وَآلِهَتَكَ"). دَلَالَةً وَاضِحَةً عَلَى أَنَّ نَصْبَ ذَلِكَ عَلَى الصَّرْفِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ أَنَّهُ كَانَ يَقْرَأُ ذَلِكَ: ("وَيَذَرُكَ وَآلِهَتَكَ")، عَطْفًا بِقَوْلِهِ: (وَيَذَرُكَ) عَلَى قَوْلِهِ: {أَتَذَرُ مُوسَى}. كَأَنَّهُ وَجَّهَ تَأْوِيلَهُ إِلَى: أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ، وَيَذَرُكَ وَآلِهَتَكَ، لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ. وَقَدْ تَحْتَمِلُ قِرَاءَةُ الْحَسَنِ هَذِهِ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهَا: أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ، وَهُوَ يَذَرُكَ وَآلِهَتَكَ؟ فَيَكُونُ "يَذَرُكَ" مَرْفُوعًا بِابْتِدَاءِ الْكَلَامِ وَالسَّلَامَةِ مِنَ الْحَوَادِثِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: (وَآلِهَتَكَ)، فَإِنَّ قَرَأَةَ الْأَمْصَارِ عَلَى فَتْحِ "الْأَلْفِ" مِنْهَا وَمَدِّهَا، بِمَعْنَى: وَقَدْ تَرَكَ مُوسَى عِبَادَتَكَ وَعِبَادَةَ آلِهَتِكَ الَّتِي تَعْبُدُهَا. وَقَدْ ذَكَرَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: كَانَ لَهُ بَقَرَةً يَعْبُدُهَا. وَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ أَنَّهُمَا كَانَا يَقْرَآنِهَا: (وَيَذَرَكَ وَإِلَاهَتَكَ) بِكَسْرِ الْأَلِفِ بِمَعْنَى: وَيَذَرَكَ وَعُبُودَتَكَ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَالْقِرَاءَةُ الَّتِي لَا نَرَى الْقِرَاءَةَ بِغَيْرِهَا، هِيَ الْقِرَاءَةُ الَّتِي عَلَيْهَا قَرَأَةُ الْأَمْصَارِ، لِإِجْمَاعِ الْحُجَّةِ مِنَ الْقَرَأَةِ عَلَيْهَا. ذِكْرُ مَنْ قَالَ: كَانَ فِرْعَوْنُ يَعْبُدُ آلِهَةً عَلَى قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ: {وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ}. حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ هَارُونَ قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرٌو قَالَ، حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: {وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ}، وَآلِهَتَهُ فِيمَا زَعَمَ ابْنُ عَبَّاسٍ، كَانَتِ الْبَقَرُ، كَانُوا إِذَا رَأَوْا بَقَرَةً حَسْنَاءَ أَمَرَهُمْ أَنْ يَعْبُدُوهَا، فَلِذَلِكَ أَخْرُجُ لَهُمْ عِجْلًا وَبَقَرَةً. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو سُفْيَانَ، عَنْ عَمْرٍو، عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: كَانَ لِفِرْعَوْنَ جُمَانَةٌ مُعَلَّقَةٌ فِي نَحْرِهِ، يَعْبُدُهَا وَيَسْجُدُ لَهَا. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ قَالَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ قَالَ، حَدَّثَنَا أَبَانُ بْنُ خَالِدٍ قَالَ، سَمِعَتُ الْحَسَنَ يَقُولُ: بَلَغَنِي أَنَّ فِرْعَوْنَ كَانَ يَعْبُدُ إِلَهًا فِي السِّرِّ، وَقَرَأَ: "وَيَذَرُكَ وَآلِهَتَكَ ". حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سِنَانٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، عَنْ أَبِي بَكْرٍ، عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: كَانَ لِفِرْعَوْنَ إِلَهٌ يَعْبُدُهُ فِي السِّرِّ. ذِكْرُ مَنْ قَالَ: مَعْنَى ذَلِكَ: وَيَذَرُكَ وَعِبَادَتَكَ، عَلَى قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ: (وَإَلَاهَتَكَ). حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ، حَدَّثَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْحَسَنِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: (وَيَذَرَكَ وَإِلَاهَتَكَ) قَالَ: إِنَّمَا كَانَ فِرْعَوْنُ يُعْبَدُ وَلَا يَعْبُدُ. قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَرَأَ، (وَيَذَرَكَ وإِلَاهَتَكَ) قَالَ: وَعِبَادَتُكَ، وَيَقُولُ: إِنَّهُ كَانَ يُعْبَدُ وَلَا يَعْبُدُ. حَدَّثَنَا الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ قَالَ، حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلَهُ: (وَيَذَرَكَ وَإِلَاهَتَكَ)، قَالَ: يَتْرُكُ عِبَادَتَكَ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ قَالَ، حَدَّثَنَا شِبْلٌ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ كَانَ يَقْرَأُ: (وَإِلَاهَتَكَ)، يَقُولُ: وَعِبَادَتُكَ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ، حَدَّثَنَا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: (وَيَذَرَكَ وَإِلَاهَتَكَ)، قَالَ: عِبَادَتُكَ. حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ الرَّبِيعِ الرَّازِيُّ قَالَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حُسَيْنٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّهُ كَانَ يَقْرَأُ: (وَيَذَرَكَ وَإِلَاهَتَكَ)، وَقَالَ: إِنَّمَا كَانَ فِرْعَوْنُ يُعْبَدُ وَلَا يَعْبُدُ. وَقَدْ زَعَمَ بَعْضُهُمْ: أَنَّ مَنْ قَرَأَ: "وَإِلَاهَتَكَ"، إِنَّمَا يَقْصِدُ إِلَى نَحْوِ مَعْنَى قِرَاءَةَ مَنْ قَرَأَ: (وَآلِهَتَكَ)، غَيْرَ أَنَّهُ أَنَّثَ وَهُوَ يُرِيدُ إِلَهًا وَاحِدًا، كَأَنَّهُ يُرِيدُ: وَيَذَرُكَ وَإِلَاهَكَ ثُمَّ أَنَّثَ "الْإِلَهَ" فَقَالَ: "وَإِلَاهَتَكَ". وَذَكَرَ بَعْضُ الْبَصْرِيِّينَ أَنَّ أَعْرَابِيًّا سُئِلَ عَنْ "الْإِلَاهَةِ" فَقَالَ: "هِيَ عَلَمَةٌ" يُرِيدُ عَلَمًا، فَأَنَّثَ "الْعَلَمَ"، فَكَأَنَّهُ شَيْءٌ نُصِبَ لِلْعِبَادَةِ يُعْبَدُ. وَقَدْ قَالَتْبِنْتُ عُتَيْبَةَ بْنِ الْحَارِثِ الْيَرْبُوعِيِّ: تَرَوَّحْنَـا مِـنَ اللَّعْبَـاءِ قَصْـرًا *** وَأَعْجَلْنَـا الِْإلَاهَـةَ أَنْ تَؤُوبَـا يَعْنِي بِـ "الإِلَاهَةِ"، فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، الشَّمْسَ. وَكَأَنَّ هَذَا الْمُتَأَوِّلَ هَذَا التَّأْوِيلَ، وَجَّهَ "الْإِلَاهَةَ"، إِذَا أُدْخِلَتْ فِيهَا هَاءُ التَّأْنِيثِ، وَهُوَ يُرِيدُ وَاحِدُ "الْآلِهَةِ"، إِلَى نَحْوِ إِدْخَالِهِمْ "الْهَاءَ" فِي "وِلْدَتِي" و"كَوْكَبَتَي" و"مَاءَتِي"، وَهُوَ "أَهِلَّةُ ذَاكَ"، وَكَمَا قَالَ الرَّاجِزُ: يَـا مُضَـرُ الْحَـمْرَاءُ أَنْـتِ أُسْـرَتِي *** وَأَنْتِ مَلْجـاتِي وَأَنـْتِ ظَهـْرَتِي يُرِيدُ: ظَهْرِي. وَقَدْ بَيَّنَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ مَا أَرَادَا مِنَ الْمَعْنَى فِي قِرَاءَتِهِمَا ذَلِكَ عَلَى مَا قَرَآ، فَلَا وَجْهَ لِقَوْلِ هَذَا الْقَائِلِ مَا قَالَ، مَعَ بَيَانِهِمَا عَنْ أَنْفُسِهِمَا مَا ذَهَبَا إِلَيْهِ مِنْ مَعْنَى ذَلِكَ. وَقَوْلُهُ: {قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ}، يَقُولُ: قَالَ فِرْعَوْنُ: سَنَقْتُلُ أَبْنَاءَهُمُ الذُّكُورَ مِنْ أَوْلَادِ بَنِي إِسْرَائِيلَ {وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ}، يَقُولُ: وَنَسْتَبْقِي إِنَاثَهُمْ {وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ}، يَقُولُ: وَإِنَّا عَالُونِ عَلَيْهِمْ بِالْقَهْرِ، يَعْنِي بِقَهْرِ الْمُلْكِ وَالسُّلْطَانِ. وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ كُلَّ شَيْءٍ عَالٍ بِقَهْرٍ وَغَلَبَةٍ عَلَى شَيْءٍ، فَإِنَّ الْعَرَبَ تَقُولُ: هُوَ فَوْقَهُ.
|